نعت الأوساط الفنية والثقافية في العراق الفنان الكبير مكي البدري الذي توفاه الأجل في المستشفى المركزي لمدينة يوتوبوري (غوتنبيرغ) السويدية ، حيث يقيم فيها احد ابنائه الثلاثة ، بسبب الشيخوخة والمرض (89 عاماً) ، وهاجر الراحل الى& السويد قبل ثلاث سنوات وقد ظل وحيدًا في بغداد بعد وفاة زوجته.
&
وما إن سمعنا خبر رحيله حتى اتصلنا بالفنان الدكتور حسن السوداني، المقيم في السويد، الذي قال : نعم .. ذهب الحارس الملاك ليلة الأمس وباتت ليالينا الطوال بعده أكثر برودة وضجرأً.
واضاف: رافقت الفنان مكي البدري اثناء عملي معه في فرقة مسرح الجماهير وتعلمت منه ان يكون الفنان او المثقف انساناً قبل اي شيء فهو ( رحمه الله ) لم يكن يتنازل عن هذه المهمة حتى لو بقى وحيدًا وبلا عمل& وقد تعلمت منه الكثير في مجال حياتي المهنية وكان مثلي الأعلى في الكثير من المواقف التي مررت بها.
&وتابع: دأب الفنان مكي البدري على الحضور في الاماسي الثقافية التي نقيمها هنا ومنها الامسية التي احياها المخرج قاسم حول رفيق دربه الطويل وكنت ادير تلك الامسية وقد تبادل فيها الاثنان العديد من الذكريات التي جمعتهما منذ فيلم الحارس، ولقد لفت انتباهي ان الراحل يتمتع بذاكرة متوقدة لا تغفل أي تفصيل حتى لو كان صغيراً، وكان يصحح الكثير من المعلومات التي نذكرها عن السينما العراقية وكذلك المسرح وفرقه ورواده، وتستطيع بسهولة ان تتلمس من خلال صوته حجم العتب الذي يحمله على المؤسسات الحكومية والكثير من المخرجين الذين لم يستثمروا طاقاته ما حدا به الى اللجوء الى اعمال اخرى كي يستطيع مواصلة العيش، ولم يستقر الفنان الراحل كثيرًا في مدينة مالمو& وتنقل بينها وبين مدينة غوتنبيرغ التي غادرنا منها بعد أن كان في منزل ابنه هناك ، واخر نشاطاته هنا هو حضوره مهرجان مالمو& للسينما العربية وكان ضيف شرف في المهرجان .
والراحل البدري يعد من الفنانين الرواد الكبار لكنه كان يشعر بالاحباط لسنوات طويلة بسبب التجاهل الذي طاله من اهل الفن ولا يعرف الاسباب وراءه ، حيث انه منذ عام 1997 لم يشترك في عمل تلفزيوني او مسرحي ما عدا عملا مسرحيا مع المخرج محسن العزاوي في مسرحية (انتبه.. قد يحدث لك هذا) عام 2010 ، ومع ذلك كان يذهب الى دائرة السينما والمسرح التي يعمل فيها بنظام العقد تحسرا على انه لم ينتم الى الفرقة القومية للتمثيل لأسباب يسخر منها حين يذكرها وهي اتهامه بأنه شيوعي ، وبعد عام 2003 قدم ثلاثة طلبات فرفضت من دون ان يذكر له السبب ، وما زال الفنانون يذكرون له مسرحية (فوانيس) التي قدمها عام 1967 وكان فيها نوع من الغرابة ، وكذلك فيلم (الحارس) الذي ادى فيه دور البطولة وقد اثار انتباه المشاهدين وكتبت عنه الصحف كثيرا وحاز جائزة في مهرجان قرطاج في تونس ، واصبح علامة فارقة في تاريخ السينما في العراق .
كنت ألتقيه بشكل مستمر اسبوعيا ويشكو لي من الاهمال الذين يعانيه ، وحين كنت اسأله بإصرار عن سبب مجيئه الى دائرة السينما والمسرح كل اسبوع قال لي وهو يبتسم ويتذكر الشخصية التاريخية الساخرة (اشعب) : (أجيء الى الدائرة حتى أرى اصدقائي القدامى، وعسى أن يتذكرني احد في عمل، وهذا كما يقول المثل (امل اشعب) الذي مرّ ذات يوم على شخص يضع الخرز في طبق من الخوص (طبكك)، فقال له: زد له (سافا) اي زد وسعه، فقال له الشخص: هل ستشتريه؟، قال له اشعب: لا، ولكن أملاُ في ان من يشتريه سيبعث لي فيه شيئاً ما) !!.
&
ولد الفنان البدري في محافظة ميسان عام 1925 ، وينتمي الى عائلة اشتهر رجالها بكونهم علماء دين من الطائفة المندائية ، وظيفته الحقيقية مدرس في وزارة التربية حيث كان يعمل مسؤولاً لقسم التمثيل بالنشاط المدرسي في وزارة التربية .
&يقول: احببت الفن وانا صغير السن عندما كنت اشاهد الاعمال التي تقدمها المدارس وبعض ما تقدمه الفرق الاهلية التي تزور بلدتي (العمارة) وكذلك كانت دار المعلمين العالية &في عطلة نصف السنة تجوب غالبية المدن لتقدم مشاهد واعمالا مسرحية متكاملة غالبيتها تربوية ووطنية، كما كانت تصطحب معها لوحات فنية من التشكيل لتقيم معرضا مصاحبا لعملها المسرحي، هذه المشاهدات والمغامرة في دخول قاعة المسرح من الشبابيك على الرغم من مطاردة الشرطة لنا، وهذا جعلني اتعلق بالمسرح انا ومجموعة من لداتي حيث كنا نعيد تمثيل قسم من المشاهد التي استوعبناها اضافة الى هذا كنت منذ صغري اقرأ القصص وخصوصًا الفلكلورية مثل تغريبة بني هلال وعنترة العبسي وفيروزشاه والف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن وغيرها مما لا اتذكره، لذلك انا لم اشعر بالندم لاننا عندما كنا نقدم عملا مسرحيا ويهنئونا الجمهور فشعرنا بالفخر ويزداد تعلقنا بالعمل المسرحي الذي قدمناه .
واضاف : كنت انتمي الى فرقة اهلية اسمها (الشعلة) التي انطفأت وماتت بوقتها وكان رئيسها ابراهيم الخطيب الله يذكره بالخير وبعد ذلك انتميت الى فرقة مسرح (اليوم) التي تركتها فيما بعد لان العوز المادي جعلني اتجه نحو الاعمال التي تدر علي ما يسد علي عوزي، اعمل علب الهدايا وديكورات لمحال الصياغ وكنت قد تركت الفن خلال الثمانينات والتسعينات .
&وتابع : في السنوات الاخيرة.. صرت احيانا اشعر بالندم عندما يصيبني العوز المادي وكان بامكاني ان استمر في اعمال كنت قد بدأتها كمشروع محل الصياغة ، فأرى ان عملي الفني الذي مارسته هو ضياع في حين غيري قد اثرى واصبحت احواله الاقتصادية فوق الممتاز، فعندما تحدث المقارنة بيني وبين هذا الشخص اتألم ويصيبني نوع من الندم .
يؤكد الراحل ، رحمه الله ، ان &النقطة المضيئة في حياته انه كان مخلصا مع نفسه ولعمله .
التعليقات