الفلسطينيون يعانون منها أكثر من غيرهم
الضغـوط النفسية: قضية العصر التي يعيشها الإنسان


إعداد الدكتورة آمال جودة : على الرغم من أن الضغوط النفسية ظاهرة قديمة ملازمة للإنسان منذ وجوده على الأرض، غير أنها أصبحت سمة هذا العصر الذي يتميز بالتغير المتسارع والتقدم العلمي والتكنولوجي، وتسيطر عليه مفاهيم العولمة، والكونية، والاعتماد المتبادل. ولئن كانت الضغوط النفسية قضية العصر الذي يعيشها الإنسان في المجتمعات المتقدمة والنامية على السواء، إلاّ أن الإنسان الفلسطيني الذي يعيش واقعًا يتميز بخصوصية فريدة لا مثيل لها، لا شك يعاني من ضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية، وسياسية فريدة من حيث النوع والكيف.
ويعد مفهوم الضغوط النفسية من المفاهيم ذات العلاقة بالصحة النفسية والجسمية لدى الفرد. وهذا ما تؤكده نتائج دراسات عدة، أشارت إلى التأثير السلبي للضغوط على الصحة النفسية والجسمية للفرد.
وترتبط الضغوط بأحداث الحياة اليومية، فكلنا بلا استثناء نتعرض يوميًا لمصادر متنوعة من الضغوط الخارجية بما فيها ضغوط العمل والدراسة، والضغوط الأسرية، وضغوط تربية الأبناء، ومعالجة مشكلات الصحة، والأمور المالية، والأزمات المختلفة، كما نتعرض يوميًا للضغوط ذات المصادر الداخلية مثل الآثار العضوية والنفسية والسلبية التي تنتج عن أخطائنا السلوكية.
ولئن كانت الضغوط شيئًا طبيعيًا في حياتنا من المستحيل تجنبه، إذ أن التحرر الكامل منها يعني الموت، فإن أحداث الحياة الضاغطة والمستمرة تستنفذ طاقة الفرد وقدرته على التكيف وتعرضه للإجهاد والأمراض النفسية والجسمية. إذ إن الإحصائيات تشير إلى أن حوالى 80% من أمراض العصر مثل: أمراض القلب، قرحة المعدة، ضغط الدم، السرطان، وغيرها لها علاقة بالضغوط النفسية. وتشير أيضًا الأكاديمية الطبية الأميركية أن ثلثي المرضى الذين يزورون طبيب العائلة يشكون من أعراض لها علاقة بالضغوط النفسية.

ردود أفعال الضغط النفسي :
تعتبر الاستجابة الإنسانية للضغط النفسي استجابة معقدة وذات أبعاد متعددة، إذ يؤثر الضغط على الفرد من خلال عدة مستويات فسيولوجية وانفعالية ومعرفية وسلوكية.
وعندما يتعرض الفرد للمواقف الضاغطة، فإنه يسلك بطريقة يحاول بها أن يواجه هذه المواقف الضاغطة، معتمدًا على عوامل متعددة مثل طبيعة الموقف الضاغط وشدته، الخصائص البيئية، بالإضافة إلى خبرات الفرد وقدرته على التحمل والمواجهة.
أولاً- ردود الأفعال الفسيولوجية للضغط النفسي:
تعتبر ردود الأفعال الفسيولوجية تلقائية ويمكن التنبؤ بها، ولكن لا نستطيع التحكم بها، أما ردود الأفعال النفسية فهي متعلمة، وتعتمد بصورة كبيرة على إدراكنا وتفسيرنا للحوادث المحيطة بنا، وقدرتنا على التعامل معها.
وعلى الرغم من اتفاق الباحثين على أن سيلي Selye هو من الرواد الأوائل الذين اهتموا بالضغط النفسي إلاّ أنه ركز على ردود الأفعال الفسيولوجية للضغط النفسي، واعتبر الضغط النفسي استجابة وظيفية (فيزيولوجية) لمؤثرات بيئية. ووجد سيلي أنه بالرغم من اختلاف مصادر الضغوط التي تتعرض لها الكائنات الحية، فإن ردود الأفعال الناتجة عن هذه الضغوط متشابهة، حيث أطلق عليها سيلي اسم أعراض التوافق العام ويرى سيلي أن هذه الأعراض تتطور في ثلاث مراحل أساسية :

1ndash; مرحلة الإنذار المبكر :
تنشأ هذه المرحلة بمجرد تعرض الكائن الحي إلى مصدر الضغط، وفي هذه المرحلة تقل مقاومة الكائن الحي، وقد يحدث الموت أحيانًا في هذه المرحلة إذا كانت قوة مصدر الضغط كبيرة.

2 ndash; مرحلة المقاومة :
يرى سيلي أن قدرة الكائن الحي على البقاء حياً تمكنه من الانتقال من مرحلة الإنذار المبكر إلى مرحلة المقاومة. وفي هذه المرحلة يستمر إفراز هرمون (ACTH)، وهو هرمون تفرزه الغدة النخامية يحرض قشرة الغدة الكظرية. وهذا يساعد على زيادة مقاومة الجسم، وتصبح الغدة الكظرية أكبر حجماً بسبب شدة فاعليتها. ويلاحظ اختفاء التغيرات التي ظهرت على الجسم في المرحلة الأولى وتظهر تغيرات أخرى تدل على التكيف.

3 ndash; مرحلة الإنهاك :
يرى سيلي أن استمرار التعرض للموقف الضاغط يستنفذ طاقة الكائن الحي اللازمة للتكيف، وبذلك يدخل الكائن الحي المرحلة الثالثة من مراحل التوافق العام وهي مرحلة الإنهاك. وفي هذه المرحلة تظهر أعراض مرحلة الإنذار مرة أخرى، وتتأثر وظائف الغدة النخامية والقشرة الكظرية بصورة كبيرة، وإذا ظل الموقف الضاغط مستمراً، فإن ذلك يعني استنزاف واستهلاك مستمر ودائم في طاقة الكائن الحي، وربما يتسبب في موت الكائن الحي في هذه المرحلة.

ثانياً ndash; ردود الأفعال النفسية للضغط النفسي :
أ- ردود الأفعال المعرفية :
من أهم ردود الأفعال المعرفية للضغط النفسي ما يلي: ضعف الانتباه والتركيز، ضعف الذاكرة، اضطراب التفكير.
ب - ردود الأفعال الانفعالية :
من أهم ردود الأفعال الانفعالية للضغط النفسي ما يلي: القلق، والاكتئاب، والاستثارة الانفعالية.
ثالثاً ndash; ردود الأفعال السلوكية للضغط النفسي :
من أهم ردود الأفعال السلوكية للضغط النفسي ما يلي: استجابة هجومية أو انسحابية، اضطرابات الكلام، اضطرابات عادات النوم.

مصادر الضغط النفسي :
للضغط النفسي مصادر متعددة في حياتنا المعاصرة، وهذه المصادر تتطلب قدرًا من التوافق والتكيف. كما أن مصدر الضغط بمفرده لا يشكل ضغطًا وتوترًا، أما استجابة شخص معين للموقف الضاغط هو الذي يجعلنا نقرر إن كان هذا الشخص يعاني من الضغط النفسي أم لا.
وتوجد مصادر بيئية للضغط النفسي وأخرى تتعلق بشخصية الفرد.
أولاً ndash; المصادر البيئية :
bull;مصادر تتعلق ببيئة العمل منها : المشكلات التنظيمية - قلة أو عدم كفاءة الموظفين - المركز أو المكانة والأجر والترقية - عدم الاستقرار وفقد الأمن - العبء المهني- غموض الدور - القيادة غير المناسبة.
bull;مصادر تتعلق ببيئة المنزل منها: الضغط الذي يكون مصدره شريك أو شريكة الحياة- الضغط الذي يكون مصدره أمور عائلية - الضغط الذي يكون مصدره الأطفال.
ثانياً ndash; مصادر شخصية:
يختلف الأفراد في مدى شعورهم بالضغط، ويعزى ذلك إلى أن بعض متغيرات الشخصية، ربما تعمل كمصادر للضغط الذي يعاني منه الأفراد.

التقييم الإدراكي :
في بعض الأحيان نسمع وقع أقدام قادمة مثلاً من الدور العلوي ونحن نجلس في مسكننا، فإذا اعتقدنا أنها خطوات أحد المتطفلين، فسوف ينتابنا الرعب والفزع، ولو كان إدراكنا لها على أساس أنها أقدام صديق أو شخص مقرب لنا فسوف نشعر بالراحة والاطمئنان.
وهنا نلاحظ أن مستوى الضغط والتوتر الذي نعانيه لا يعتمد فقط على مصدر الضغط، ولكنه يعتمد على مدى تقييمنا لهذا الحدث المسبب للضغط وهل هو مهدد لحياتنا، ويعتمد أيضًا على مدى تقييمنا للقدرة التي نملكها على مواجهة هذا الحدث المهدد. أي أن مستوى الضغط الذي يعانيه الفرد يعتمد على التوازن بين التقييم الأولي والتقييم الثانوي.
2- المزاج والضغط النفسي :
للمزاج الذي يتسم به الشخص تأثير على مستوى الضغط الذي يعانيه في المواقف الضاغطة والصعبة. فالشخص الذي يغضب بسهولة ولأقل الأسباب يصبح أكثر حساسية وعرضة للضغوط.
3- نمط الشخصية
قسم العلماء الشخصية إلى نمطين أطلق على النمط الأول نمط الشخصية quot; أ quot; Type A Personality وأطلق على الثاني نمط الشخصية quot; ب quot; Type B Personality، ويتصف ذوي النمط quot; أ quot; بالتنافس الشديد مع الآخرين، والعدوانية، وعدم الصبر، وبالطموح والعمل الشاق والمثابر تحت ضغط الوقت، وبالقيام بعدة أعمال في وقت واحد، إضافة إلى كونهم سريعي الغضب والإثارة. أما أصحاب الشخصية ذوي النمط quot; ب quot; فهم على النقيض من ذوي النمط quot; أ quot; حيث يتميزون بالهدوء والصبر والبطء في إنجاز أعمالهم، وهم أقل تنافسًا مع الآخرين، وليس من السهل إثارة غضبهم مقارنة بنمط الشخصية quot; أ quot;.
وهنا نلاحظ أن السمات المتطرفة التي يتضمنها سلوك النمط quot; أ quot; كالمنافسة الشديدة والعدوانية وعدم الصبر وسرعة الغضب والاستثارة، تعتبر سبباً في بروز بعض ملامح التوتر على الأفراد ذوي النمط quot; أ quot;، وعدم وضوحه على النمط quot; ب quot;. وبالتالي يمكن القول إن أصحاب الشخصية ذوي النمط quot; أ quot; أكثر نجاحًا في الحياة المهنية من النمط quot; ب quot; ولكن على حساب صحتهم البدنية والنفسية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يوجد نوعان من الضغط النفسي، نوع مفيد لبقاء الفرد وأسماه سيلي Eustress، ونوع ضار معيق للفرد أسماه Distress. ونحن عندما نتكلم عن الضغوط النفسية فإننا نعني بها النوع الضار المعيق للفرد. وعلى الرغم من ذلك، فإن تعرض الفرد للضغوط النفسية لا يعني أنه سيعاني حتمًا من الأمراض النفسية وعدم القدرة على التوافق في الحياة، فالأفراد يستخدمون أساليب ووسائل متعددة للتغلب على أحداث الحياة الضاغطة والصعبة، تساعدهم على التوافق مع هذه الأحداث والحفاظ على الاتزان الانفعالي والسلامة النفسية مع تصور إيجابي للذات. ويعود تباين الأفراد في استخدام هذه الوسائل إلى عدة عوامل منها نمط شخصيتهم ومستوى قدراتهم وخبراتهم السابقة وطريقة تقييمهم لهذه الأحداث ومستوى ما يتمتعون به من صحة نفسية، وإيمانهم بقضاء الله وقدره. كما أن قدرة أساليب المواجهة على مساعدة الفرد على الاحتفاظ بالصحة النفسية والجسدية معاً رهين بوعي الفرد بكيفية المواجهة، ومعرفة الأساليب أو الاستراتيجيات الملائمة لمعالجة موقف ما.


أستاذ الصحة النفسية المشارك- جامعة الأقصى ndash; غزة