لا يقتصر على فئة اجتماعية أو ثقافية بعينها، بل يشمل كل الطبقات والثقافات.فالأب الذي يقتل أبناءه ثم ينتحر، أو الزوجة التي تقتل زوجها، والابن الذي ينهي حياة والديه، كلها علامات على تفشي ظاهرة العنف رغم التطورات الحضارية التي لحقت بالمجتمعات الإنسانية خلال هذا القرن.


تجاوزت الصحف اليومية في العالم عن الجرائم الاجتماعية من قتل وسرقة وما شابه، لتستبدلها بالجرائم داخل الحياة الأسرية، فطبقاً للإحصائيات نشرت الصحافة المصرية فقط ما يقرب من (224) خبر عن العنف الداخلي الموجه للأسرة خلال عام (2010)، خاصة حالات قتل المرأة، سواء البنات أو الزوجات.

بالإضافة للجدل الدائر حول زيادة نسبة انتحار المراهقين المتسبب فيه العنف الأسري بشكل مباشر داخل المجتمعات العربية، مع ملاحظة أن ممارسة العنف داخل الأسر العربية لا يقتصر على فئة اجتماعية أو ثقافية بعينها، بل يشمل كل الطبقات والثقافات، فالأب الذي يقتل أبناءه ثم ينتحر، أو الزوجة التي تقتل زوجها، والابن الذي ينهي حياة والديه، كلها علامات على تفشي ظاهرة العنف رغم التطورات الحضارية التي لحقت بالمجتمعات الإنسانية خلال هذا القرن، متجاوزة الحدود الطائفية أو الدينية التي تتسم بالعنف الموجه ضد فئة أو جماعة، بل هي ظاهرة أصبحت كامنة في الحياة الاجتماعية بعيداً عن أي تصنيف ممكن مما يؤكد على مدى الانحراف السلوكي الذي تعاني منه الشخصية العربية على كافة المستويات.

فطبقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية فإن التعريف الإجرائي للعنف هو: quot;الاستعمال المتعمد للقوة المادية، سواء بالتهديد أو الاستعمال الفعلي لها من قبل الشخص ضد نفسه أو ضد شخص آخر، أو المجتمع ككل، ينتج عنه إيذاءً جسدياً ونفسياً، أو حتى الموت quot;، فإذا طبقنا هذا التعريف في عموميته، فستكون لحياتنا النصيب الأوفر، وكما أدرجت منظمة الصحة العالمية في تقريرها، أن حوالي 71 % من النساء في العالم يتعرضن للعنف الجسدي من قبل أزواجهن.وقد أكد (اليونيسيف)، أن من بين 20 إلى 50 % من النساء في العالم تعرضن للعنف المنزلي خلال حياتهن، سواء عنف الزوج أو الأب أو الأخ.

أما ما يخص المجتمع العربي، فللأسف لم يتم رصد الظاهرة بشكل واضح، نتيجة لأسباب تتعلق بالتعتيم والتكتم الاجتماعي، ولكن طبقاً لبعض الإحصائيات التي قد توصف بأنها ليست دقيقة بما يكفي، تشير إلى أن نسبة العنف الأسري في سوريا مثلاً حوالي 25%، وتصل النسبة في فلسطين إلى 50%، وفي المغرب تتجاوز النسبة 70%.فالعنف الأسري أصبح أكثر الظواهر التي قد تهدد استقرار مجتمعاتنا، مع النسب المتزايدة سنوياً، خاصة على مستوى الترابط داخل الأسرة، أو حالات الانحراف السلوكي التي يتسبب فيها العنف المنزلي، كحالات المثلية الجنسية، نتيجة لهروب بعض أفراد الأسرة الذين يقع عليهم العنف، بالإضافة للتأثيرات النفسية السلبية التي تنتج عنه.

فطبقاً لدراسة أميركية صادرة عام 2009، أن تأثير العنف الأسري، يقع مباشرة على الأبناء في مرحلتي الطفولة والمراهقة، حيث يعانون من اضطرابات نفسية وعصبية، يصاحبها سلوكاً عدائياً، واستعداداً كاملاً للمثلية الجنسية.

العنف والتحرش والمثلية:

نشر المجلس المصري لحقوق المرأة دراسة أخيرة يؤكد فيها أن 83% من النساء يتعرضن للتحرش، سوءا داخل الأسرة أو خارجها، كما تؤكد العديد من الدراسات أن التحرش فعل يتم بكثافة في المجتمعات العربية، ولا يفرق بين ذكر أو أنثى، ويعتبر شكلاً أصيلاً من أشكال العنف الأسري، مثل الاغتصاب أو هتك العرض، الذي قد يمارس على الأطفال، خاصة من ذوي القربى، أو القائمين على التربية كالخدم أو السائقين.

كما يُعتبر زنا المحارم من أكثر أشكال العنف الأسري انتشاراً في المجتمعات العربية، نتيجة لغياب التثقيف النفسي أو الجنسي، وكذلك بسبب الانغلاق والإهمال الأسري، ويؤكد علماء النفس أن الممارس لزنا المحارم مصاب بأمراض نفسية مزمنة كالفصام، أو إصابات عضوية بالمخ، تجعله لا يخجل من ممارسته باستخدام العنف أحياناً. فغالباً ما تلجأ الفتاة التي تعرضت لزنا المحارم إلى ممارسة الدعارة، بسبب انتهاك حرمتها، وممارستها أقصى الأفعال الجنسية انتهاكاً لمفهومي العيب والحرام أو quot;التابوquot; بشكل عام.

كما أن الأبناء في سن الطفولة والمراهقة، الذين تعرضوا للتحرش الجنسي داخل الأسرة، يدفعهم ذلك إلى المثلية، وذلك طبقاً للدراسات النفسية التي تمت على عينة من المثليين، فالأغلب أن تكون البداية التعرض لحالات تحرش أو اغتصاب داخل الأسرة، لشعورهم الدائم باللذة في ممارسة هذا الفعل، والانتقام ممن سببوا لهم هذا الألم النفسي الشديد، وكذلك الانتقام من ذاته بواسطة التجاوب مع هذا الفعل.

فالعنف الأسري والانحرافات وجهان لعملة واحدة، يفضي أحدهما إلى الآخر بالتبعية، فالشخص الذي يقع عليه هذا النوع من العنف يمارسه بنفس الطريقة، فالمثلية أو الدعارة التي أصبحت منتشرة بين طبقة المراهقين والمراهقات، وكذلك جرائم الاغتصاب وهتك العرض، يمثل رد فعل عكسي لوقوعهم تحت طائلة العنف أو الاغتصاب الجسدي داخل الأسرة.

ختان الإناث والعنف النفسي:

أثبتت معظم الدراسات التي أجريت على الداعرات أن أغلبهن قد تمت لهن عملية الختان في الصغر، مما يؤكد أن هذا النوع من العنف الذي يُمارس بدافع اجتماعي أو ديني، للحفاظ على العفة والشرف، لم يؤدي الغرض منه، بل ترك آثاراً سلبية على النقيض تماماً.

ويُرجع علماء النفس هذه الظاهرة إلى أن المرأة المختنة قد تعاني من انحرافات نفسية وعصبية، مثل الاكتئاب وضعف الثقة بالنفس، والهستريا، وتكوين علاقة عدائية ضد من تسببوا في هذا الفعل، تنسحب على المجتمع ككل، وقد تتطور تلك الانحرافات النفسية إلى انحرافات سلوكية، تأخذ شكل ممارسة البغاء أو الدعارة.

فالختان لا يؤدي فقط إلى حالات الانفصال الزواجي، أو البرود الجنسي في العلاقة الحميمية بين الزوجين، بل قد يتجاوز ذلك إلى آثار نفسية مدمرة للأسرة، تظهر على شاكلة العنف الجسدي، فعدم الرضا الجنسي يتسبب مباشرة في انحرافات سلوكية، فطبقاً لتصنيف عالم النفس الأميركي (ابراهام ماسلو) أن إشباع الحاجات الفسيولوجية الأساسية خاصة الحاجة الجنسية، من أهم ملامح الشخصية النفسية السوية، وبالتالي يؤدي فقدانها إلى انهيار لأحد المكونات الإنسانية الأساسية، فتتسبب في خلل نفسي وسلوكي، يظهر في العنف الأسري في محاولة لإلقاء اللوم على الشريك الأخر في الحياة الجنسية.

فالختان بوصفه فعل عنيف ودموي، قد يفسر لنا حالات العنف المتبادل داخل الأسرة، فطبقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية، أن الختان يزداد انتشاره في دول شمال ووسط أفريقيا، ففي مصر 97%، والسودان 90 %، والصومال 98 %، هذا رغم التحذيرات الشديدة ضد ممارسة هذا الفعل مما يعني أن عدم الرضا الجنسي بوصفه انحراف ناتج عن ممارسة الختان كعنف نفسي وجسدي ضد النساء، يؤدي إلى عنف عكسي ضد المجتمع ككل مجسدة داخل الأسرة، فتزداد معدلات الجريمة المنزلية وترتفع نسبة الطلاق.

العادات والتقاليد من أسباب العنف الأسري:

بناء على دراسة منشورة في مجلة (World Family Medicine) الأميركية، عن العنف الأسري في المجتمعات العربية والإسلامية عام (2010)، أن حوالي 60% من النساء يقع عليهن العنف من قبل الذكور، سواء الأخ أو الأب أو الزوج، على اختلاف المستويات الثقافية أو الاجتماعية، والأهم أن 50% من تلك النساء لا يرفضن ذلك العنف، و يعتبرونه أمراً طبيعياً، نتيجة لاعتبارات اجتماعية ترجع لقيمة الذكر في الثقافات العربية والإسلامية.

فالنساء يساهمن بشكل أو بآخر في ترسيخ السلطة الذكورية في المجتمع، بل ويؤكدن على ضرورة العنف كممارسة حياتية طبيعية، وبالتالي ينسحب ذلك على بقية أفراد الأسرة خاصة الأطفال بوصفه أمراً بديهياً، فكما يمارس الرجل سلطته المطلقة تمارس المرأة رضوخها المطلق أيضاً، بحيث يعتبر المجتمع أي محاولة للتمرد على هذا النظام الذكوري القائم شكلاً من أشكال الانحراف الذي لابد أن تتم مواجهته بقوة و مزيد من العنف وبالتالي تأتي حالات الانحراف بين أفراد الأسرة، وفي المجتمع عموماً كرد فعل سلبي على القمع المجتمعي المتمثل في الرجل أو الذكر بمفهومه الأوسع.

فطبقاً لعلم النفس، تُمثل الثقافة الاجتماعية أو سلطة المجتمع، عنصراً أصيلاً في التكوين النفسي للفرد، بحيث تمنحه منظومة القيم التي يتحرك من خلالها، ويُقيّم الآخرين بناءاً عليها. والمجتمع العربي بشتى طوائفه يعتمد على الثقافة البطريريكية /الأبوية، لتحديد هوية الفرد داخله، وبالتالي يعطي مساحة من السلطة المطلقة بيد الذكر في الأسرة أياً كان ترتيبه في النظام الأسري لاعتبارات ثقافية أو دينية، ليمارس العنف بوصفه شكل من أشكال الحفاظ على النظام الاجتماعي مما قد يؤدي إلى تشويه نفسي عام لبقية أفراد الأسرة من أطفال أو نساء، فمعظم حالات المثلية لدى الفتيان كان سببها قمع أبوي أدى إلى سلب لشخصيته وانسحابه داخل ذاته الجنسية ليتوحد معها.

وكذلك المجتمعات التي تعاني من ازدياد نسبة الدعارة فيها لابد وأن تتسم بعنف ذكوري في المقابل، فهروب الفتيات أو الزوجات من داخل الأسرة، يؤدي بهن مباشرة إلى ممارسة الرذيلة كحل اقتصادي في بداية الأمر، ومحاولة انتقامية لما تعرضن له داخل أسرهن، فالدعارة تكون الحل البديل للانتحار، أو قتل الزوج أو الأب كشكل آخر من التمرد، خاصة أن العقل الجمعي النسائي، يسبغ شرعية ما على القمع الذكوري.

فالعنف الأسري بأشكاله المتعددة يُعتبر من أهم أسباب انهيار المجتمع بوصفه انهيار للأسرة التي تشكل بنيته الأساسية، لما يلازمه من تشوهات نفسية وسلوكية تهدد بفساد منظومة القيم الاجتماعية، بشكل يصعب معه تدارك الأمر أو إصلاحه.

* أخصائية نفسية

[email protected]