لقاء مع الباحث صباح خليل مال الله

حاوره موسى الخميسي: باحث اكاديمي في الدراسات المندائية والغنوصية/رئيس تحرير مجلة (المندائية) الصادرة في لندن. اول عراقي يحصل على منحة مؤسسة ونغيت للدراسات العليا في بريطانيا. منتسب حاليا لجامعة لندن للعمل على مشروع قصة الخلق في العقيدة المندائية / دراسة مقارنة


*ماهي علاقة اللغة المندائية باللغة الآرامية وفي اي فترة زمنية ظهرت؟
ـ المندائية هي احدى اللهجات الشرقية للغة الآرامية وظهرت للوجود مع الظهورالأول للآراميين منذ حوالي ثلاثة الآف سنة حين استوطنت قبائلهم على امتداد نهر الفرات وفي كل منطقة الشرق الأدنى. لقد قام الآراميون بتأسيس اماراتهم ابتداء من الألف الأول قبل الميلاد على تخوم المدن الآشورية وامتدت مناطق نفوذهم من بيت زماني في الأناضول شمالا الى مملكة ميشان و بلاد العيلامين في الجنوب، وتوالت الهجرات الآرامية نحو جنوب العراق فاتجهوا نحو بابل في عصر الكاشيين وقد تمكن احد زعمائهم المدعو حدد أبال عديني من خلع ملك بابل وتنصيب نفسه ملكا عليها وذلك مابين 1071 ـ 1054 قبل الميلاد. لقد انتشر الآراميون انتشارا واسعا في ارجاء العراق هربا من الضغوط الآشورية على قبائل وممالك الشمال، حتى ان المناطق المحاذية لنهر دجلة والمتاخمة لبلاد عيلام شرقا وبلاد بابل غربا باتت تسمى (بلاد آرام). وفي عام 612 قبل الميلاد احتل نبوبلاصر نينوى وبدأ عصر الأمبراطورية الكلدانية التي صهرت ابناء عمومتهم الآراميين في بوتقتها، فأصبح الآراميون جزءا حيويا من الأمبراطورية الكلدانية، وبهذا انتهى صراعهم الدموي مع الآشوريين وبدأ دورهم المؤازر للكلدانيين. وعندما سقطت بابل الكلدانية سنة 539 قبل الميلاد على يد الفرس الأخيمنيين كان الآراميون قد فقدوا مع الكلدانيين دورهم السياسي والعسكري. ولكن النهاية السياسية للآراميين لم تكن خاتمة المطاف بل تلاها الدور الحضاري الذي قامت به الثقافة واللغة الآرامية في منطقة الشرق الأدنى بأكلملها لأكثر من ألف عالم، كما يذكر ذلك الدكتور خزعل الماجدي في كتابه "المعتقدات الآرامية" . وفي سوريا قام الآراميون بتأسيس ممالك عديدة جاء ذكر معظمها في كتاب التوراة (العهد القديم). وبالرغم من الصراع الدموي مابين الآشورين والآراميين الا ان الآشوريين تبنوا اللغة الآرامية لغة رسمية لأمبراطوريتهم في بداية الألف الأول قبل الميلاد، وفي النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد ساعدت الأمبراطورية الأخمينية على نشر اللغة الآرامية فسهل ذلك على الفرس التعامل مع سكان بلاد الرافدين والشام وشمال الجزيرة، فانتشرت اللغة الآرامية من الهند الى مصر والحبشة. اما في فلسطين فصار اغلب السكان يتخاطبون بالآرامية الى جانب اليونانية اثناء حكم البطالة والسلوقيون للمنطقة واقتصرت العبرية على كونها اللغة الخاصة بالهيكل.


* لماذا انتشرت اللغة الآرامية وماهي تصنيفاتها واين برزت استخداماتها؟
- يعزى انتشار اللغة الآرامية، والتي كانت تسمى " لشان نهري " نسبة الى نهري دجلة والفرات، الى عذوبة الفاظها ومرونة افعالها وكذلك الى الآراميين انفسهم الذين كانوا يمتهنون التجارة وجابوا أغلب مناطق الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض فانتشرت اللغة الآرامية على ايديهم انتشاراً واسعاً. لقد عثر على هذه اللغة في جزيرة الفيلة في مصر حيث دون بها العبرانيون كل وثائقهم وعقودهم الرسمية في منتصف الألف الأول قبل الميلاد ووجدت كذلك مدونة في مسكوكات اسيا الصغرى وأوامر مرازبة الفرس كما تم العثور عليها في اقاصي الصين حيث نقلها المبشرون المانوين الى هناك خلال القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد.
قام علماء اللسانيات بتصنيف اللغة الآرامية الى لهجات غربية، استخدمت في بلاد الشام وفلسطين، وشرقية خاصة ببلاد وادي النهرين والأخيرة شملت كل من الكلدانية والآشورية والسريانية والبابلية والمندائية. وبالآرامية تمت كتابة كل الكتب المقدسة، فكتب بها التلمود البابلي وقسم كبير من العهد القديم مثل سفري عزرا ودانيال والأنجيل (العهد الجديد) وكتاب المندائيين المقدس كنزا ربا وأنجيل ماني وكتاب الأفستا ـ كتاب أقوال زرادشت، وهذا بحد ذاته يثير تساؤلا غريبا عن قدسية هذه اللغة. وقد اخطأ بعض المستشرقين حين اطلقوا على لغة الكتاب المقدس (كلدانية) لأن الكلدان كانوا فئة من شعب بابل، يقول العهد القديم: " فأمر الملك (نبوخذ نصر) بأن يستدعي المجوس والسحرة والعرافون والكلدانيون ليخبروا الملك باحلامه... فكلم الكلدانيون الملك بالآرامية..." (دانيال 2 :2 ـ 4) . والآرامية هي اللغة التي تكلم بها كل من يحيى بن زكريا (يوحنا المعمدان) والسيد المسيح (عليهما السلام).
لقد استمرت الآرامية لغة رسمية للعراق فترة طويلة تعدت الألف سنة دونت بها كل نشاطات الامبراطورية انذاك بما فيها الأداب والفنون مثل اعمال الفليسوف العراقي احيقار الحكيم، كما ان المفكر والمؤرخ البابلي الكبير بيروز صاحب الكتاب الشهير بابيلونايكا كتب كل مؤلفاتة باللغتين الآرامية واليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد. ومازالت الذاكرة العراقية تحتفظ لنا بالعشرات من المفردات والتعابير الآرامية الى يومنا هذا مثل مسگـوف وحريشي و اسليمة وبلابوش و كرزات ونياحة وبزخ وانثبر وطرگـاعة وصيغ الأفعال مثل صعديت و أكليت وشربيت ولعبيت ومئات الأمثلة غير ذلك.


*هل حقا ان اللغة المندائية كانت احدى اللغات الحية والحيوية، الا انها اليوم تفقد عناصر ديمومتها نحو الانقراض بسبب هجران ابنائها لها نحو اللغة العربية؟
- في مايتعلق بالمندائية فقد انتشرت بشكل كبير في بابل والمناطق الممتدة جنوبا الى مملكة ميشان وبلاد عيلام في القرن الأول الميلادي. لقد تبنى كل من العلاميين والميشانيين الأبجدية المندائية في القرن الثاني الميلادي لمرونتها وقوة تعابيرها واصبحت اللغة التي دونت بها الكثير من الوثائق ونقشت حروفها على المسكوكات المعدنية في تلك الفترة وفي الوقت ذاته غدت المندائية، التي اتخذت من الارتماس (التعميد) بالماء رمزا لها، عقيدة آمنت بها مجاميع كبيرة من الناس سواء في بلاد الرافدين او حوض الأردن عندما كان النبي يحيى يكرز في البرية ويحارب الطغيان بينما هو يعمد الجموع التي تنضم لمسيرته. ويشيرالمستشرق الألماني الكبير مارك ليدزبارسكي M. Lidzbarsky، الذي قام بترجمة كتاب كنزا ربا المقدس الى الألمانية في مطلع القرن الماضي الى ذلك بقوله:
" من المسلم به ان الانقلاب العظيم الذي احدثه الدين المندائي على الصعيد المذهبي لم يتم في عشية وضحاها. لقد استطاع هذا الدين ان يثبت جدارته وأن يتوطد ويغدو عقيدة لفئات واسعة من البشر. لكن نحن نفتقر الى امكانية للنظر في الأحداث التي مهدت لهذا الدين منذ البداية." ومن المعلوم فأن الصابئة المندائيون كانوا منتشرين بكثرة في العراق وخصوصا المناطق الوسطى والجنوبية من العراق. وقد استمر الصابئة في تواجدهم على ذلك الجزء من جنوب بابل ومملكتي ميشان وعيلام بكل حيوية الى مابعد الفتح الأسلامي بأكثر من ثلاثة قرون وقد اسماهم ابو فرج النديم المتوفى سنة 438 هـ بالمغتسلة او "الصابة" حين قال :
" وهؤلاء القوم كثيرون بنواحي البطائح، وهم صابئة البطائح يقولون بالاغتسال، ويغسلون جميع ما يأكلونه، وهم عامة الصـَابـة المعروفين بين الحرانييــن." كما اطلق عليهم ابن النديم ايضاً تسمية " الرشيين" و "الكوشطيين"، و(الكوشطا) هي عهد الصابئة المقدس. وقد تعرض المندائيون الى العديد من حملات التطهير العرقي على مدى التاريخ، شأنهم شأن المانوين وغيرهم من الأقوام الذين انقرضوا من العراق، وآخرها كانت مذبحة شوشترالتي حدثت في القرن التاسع عشر حيث لم يتبق في هذه المدينة المندائية ولا مندائي واحد كما تعلم، ونتيجة لذلك تضاءلت اعداد المندائين الى درجة مخيفة وباتوا على شفير الفناء، وقد احصاهم المستشرق بيترمان في عام 1840 فوجد انهم بحدود الخمسمائة عائلة او ما يزيد قليلاً في المنتفك والقرنة وغيرها من مناطق الجنوب العراقي.

*كيف تضاءل دور اللغة المندائية، وهل هي مهددة الآن؟
- لقد كانت اللغة المندائية ـ والمندائية بالمناسبة تعني العرفانية ـ لغة العلم والمعرفة ولغة التداول اليومي جنبا الى جنب مع اللهجات الأخرى مثل النبطية والبابلية الكلدانية (القريبتان جداً من المندائية) الى ان اخذت بالضعف والأنكماش التدريجي امام اللغة العربية التي هيمنت على العراق بعد الفتح العربي الأسلامي في القرن السابع الميلادي، فتخلى عنها المندائيون في العراق تماما لصالح اللغة العربية لأسباب عديدة ومن اهمها الاضطهادات الدينية والعرقية، وأصبحت تقتصر حاليا على رجال الدين المندائيين الذين يؤدون بها الطقوس الدينية اي لغة طقسية او مايسمى بالأنجليزية liturgical language. وبالتأكيد، اذا ما استمر الحال كما هو عليه الآن فستنقرض هذه اللغة في المستقبل القريب كما تنبأت بذلك الليدي دراور التي درست اللغة المندائية وترجمت كتبهم وعاشت معهم لفترات طويلة.
ان الهجرة التي فرضت على المندائيين في العقدين الأخيرين وانتشارهم في المهاجر يشكل تهديدا خطيرا آخر للغة المندائية والتراث المندائي، حيث لا توجد مدارس تدرس المندائية ولامعاهد دينية تدرس الطقوس والعبادات لابناء هذه الطائفة. ان بقية الطوائف مثل الطوائف الكلدو اشورية والسريانية والآرامية تقاتل على شتى الصعد من اجل النهوض بلغاتها فحري بالمندائيين اتباع نفس هذا النهج بما يؤدي الى حفظ لغتهم وتراثهم من الاندثار والضياع .


*بماذا يمتاز الادب المندائي عن غيره من الاداب الانسانية القديمة؟

ـ تنتمي اللغة المندائية الى نفس المجموعة من اللغات السامية التي تنتمي اليها الأكدية والعبرية والعربية والآرامية والفينيقية والكنعانية . والمندائية هي اللهجة الآرامية الوحيدة التي حافظت على نقاوتها اللغوية من الألفاظ والتعابير الخارجية خاصة من الألفاظ العربية، وتمتاز بسهولة تعلمها وبمرونة اصواتها وعذوبة الفاظها، ومازالت اللغة المندائية لغة الأدب ولغة الطقوس لدى المندائيين في العراق والعالم بالأضافة الى انها لغة التخاطب لدى صابئة ايران. وتشترك المندائية في كثير من مفرداتها مع اللغة العربية ويمكن تمييز ذلك بدون صعوبة تذكر، كما انها تحتوي على الكثير من المكونات السومرية مثل ملواشا (الأسم الفلكي) واشكندا (مساعد) وكذلك المئات من المفردات الأكدية مثل ديمتو (دمعة) ودالو (ارتفع) وهبالو (خوف) وهشالو(صائغ).

وهي لغة ذات انسيابة شعرية خاصة تعبر عن الأفكار الثيوصوفية التي يمتاز بها الأدب الديني المندائي كما نرى في المناجاة التالية من كتاب كنزا ربا المقدس والتي ترجمناها من اللغة المندائية مباشرة :
باسم الحي العظيم / معظم هو النور السامي / اني نشأت من عالم النور / منك ايها المقام النوراني / ان الأثرا (الكائن النوراني) الذي رافقني من دار الحياة / كان ممسكا بمركنة (عصا) الماء الحي في يده / ان عصا الماء الحي التي كان ممسكا بها في يده / مزدانة بأطيب الأوراق / قدم هو لي بعضاً منها / وكانت ملأى بالطقوس والصلوات / ومرة ثانية قدم لي بعضا منها / فوجد قلبي العليل فيها شفاءً / وحينما قدم لي بعضا منها في المرة الثالثة / رفع ناظري نحو العلا / فأبصرت أبي وعرفته / حين ابصرت ابي وعرفته / تضرعت اليه ان يحقق لي ثلاث امنيات / تضرعت اليه ان يهبني وداعة لاتعرف العصيان / وان يمنحني قلباً ثابتاً يتحمل الأوزار / وأن يمهد سبيلي / لكي ارتقي عاليا وأرى مقام النور.
وللمندائيــة ابجديتها الخاصة بها التي تنفرد بها من حيث شكل الحروف ويطلـقون عليــها الـ (آ ـ با ـ گـا ـ دا)، لكن قواعد الصرف والنحو تخضع لنفس المقاييس المتبعة في اللغة الآرامية بشكل عام وهي تعتمد في كتابتها على الحروف الصحيحة اكثر من اعتمادها على حروف العلة التي يعبر عنها بعلامات مقتبسة من الأبجدية نفسها كما في اللغات الأوربية. وأغلب كلماتها ترجع في اشتقاقها الى اصل ثلاثي الحروف، كما انها تكتب مثل جميع اللغات السامية من اليمين الى اليسار، والحرف المندائي له قدسية خاصة لدى المندائيين وتكمن في طريقه رسمه رمزية النور والنور والصراع مابين الخير والشر، كما ان لهذه الحروف اقياماً عددية فحرف الألف قيمته واحد والباء اثنان والدال خمسة، وهكذا. واللغة المندائية تتكون من اثنين وعشرين حرفا وتخضع لأبجدية (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت) وهي خالية من الروادف (ثخذ، ضغظ) . لقد تعرضت اللغة المندائية لأهمال كبير خاصة بعد الطاعون الكبيرالذي اصاب العراق سنة 1831م وحصد ارواح مئات الألوف من العراقيين ومن ضمنهم اغلب رجال الدين المندائيين ومن الفيضان الذي تلا ذلك الطاعون. ولكن جهود بعض الغيارى انذاك من افراد الطائفة المتنورين ادت الى جمع ما سلم من الكتب والدواوين بشكل كامل تقريبا. ان كافة الطقوس والصلوات تتم باللغة المندائية ـ ولا يجوز بغيرها ـ باعتبارها لغة العبادة ولذا فهي لغة مقدسة كتبت بها صحف آدم الأولى وبقية كتبهم الدينية.
ان النصوص المندائية هي الأكثر نقاوة من ناحية لغوية ولم تتعرض للعناصر الدخيلة interference ولذا فهي تقدم اللغة الآرامية بشكل افضل من لغة التلمود. لقد دونت المخطوطات المندائية في بابل وكتاب كنزا ربا قد كتب قبل قدوم الأسلام الى العراق بفترة طويلة، وخلف لنا المندائيون القدامى مخطوطات ودواويين ولفائف وتعاويذ طلسمية مكتوبة على اشرطة رصاصية وعلى قحوف الأحراز، واغلب هذه الدواووين والمخطوطات مكتوبة على ادراج طويلة بشكل ملفت للنظر تتخلها رسوم لشخوص كونية رمزية لها اسلوب خاص بفن الرسم الديني المندائي.


* ما هو دور المؤسسات الدينية والرسمية المحلية والعالمية( اليونسكو مثلا) الذي يتوجب الحفاظ على هذه اللغة كتراث انساني عريق من اجل توثيقها والمساعدة على ديمومتها؟
ـ ولكن هذه اللغة الجميلة التي استمرت منذ حكم الملك البابلي العظيم نبوخذ نصـّر الى يومنا هذا هي فعلا مهددة بالانقراض، ولم تحض بالأهتمام الأعلامي اللازم باعتبارها اللغة الغنوصية الوحيدة التي قدر لها البقاء بالرغم من كل الكوارث التي المت بها. ان مسألة الحفاظ على اللغة المندائية ينبغي ان تتولاها المؤسسات العراقية الرسمية وغير الرسمية مثل وزارة الثقافة ووزارة التربية ووزارة التعليم العالي ومخاطبة الجهات الدولية ذات العلاقة مثل منظمة اليونسكو والمنظمات التي تدافع عن الأقليات واللغات المهددة بالانقراض، كما يتحمل المندائيون انفسهم مسؤولية النهوض بتراثهم وأحياء لغتهم. وفي السنوات الأخيرة قام بعض مثقفي المندائيين بمحاولات جادة، ولكنها تبقى فردية، لأحياء لغتهم. فقد تصدى الأستاذ خالد عبد الرزاق الخميسي ـ كارلوس جيلبرت ـ لترجمة كتاب كنزا ربا من الألمانية الى العربية فأتاح لأول مرة للباحث للمندائي وغير المندائي الاطلاع على محتوياته التي بقيت طي الكتمان مئات من السنين. كما قام الدكتور قيس مغشغش فابتدع طريقة لكتابة الخط المندائي على الكومبيوتر لذوي الأختصاص وقام بوضع كتاب (لنتعلم المندائية) وهو موجه للمندائين بمختلف الأعمار. اما الأستاذ أمين فعيل حطاب فقد ألف كتاباً في القواعد المندائية وترجم بعض الدواويين والكتب من المندائية الى العربية ومنها كتاب تعاليم يحيى (دراشا ديهيا) والذي نشر في بغداد قبل بضعة اعوام. اما قصب السبق في هذا المجال فكان من نصيب الأستاذان المرحومان نعيم بدوي وغضبان رومي حين ترجما كتاب : مندائيو العراق وأيران The Mandaeans of Iraq and Iran الذي قامت بتأليفه الباحثة البريطانية اثل ستيفانا دراور E. S. Drower ونشرته جامعة اوكسفورد سنة 1937 وصدر بالعربية في بغداد سنة 1969 تحت اسم الصابئة المندائيون. وفي سنة 1981 اصدرت الأستاذة المندائية ناجية المراني كتابها الموسوم مفاهيم صابئية مندائية تلاه كتاب الأستاذ عزيز سباهي اصول الصابئة المندائيين الذي اصدره في عام 1996. ولابد لي هنا ان اشيد يجهود رجل الدين المندائي الربي رافد عبدالله السبتي لقيامه بترجمة بعض الكتب المتعلقة بالطقوس المندائية مباشرة من المندائية الى اللغة العربية ومنها كتاب مهم هو طقوس المسقثا، اي طقوس عروج النفس (النشمتا) الى عالم النور. كل الذي ذكرناه جهد متميز لكنه لايرتقي لمستوى التحدي الذي تجابهه اللغة المندائية وهو تحدي بقاء بلا شك.

لقد قام الصابئة بدور كبير في النقل والترجمة في العصر الأسلامي فنقلوا الكثير من تراث مدرستهم العلمي والفلسفي الى العربية وترجموا امهات الكتب والمؤلفات اليونانية فاضافوا اضافة مهمة للتراث العربي، كما ساهم الصابئة فى نقل العلوم اليونانية إلى العربية وكل هذه العلوم سواء الفلك أو الرياضيات أو الطب وغيره، وكانوا هم حلقة الوصل بين الحضارة الإسلامية والحضارات التى سبقتها وقدموا خدمات جليلة للعراق على مدى العصور، فالدور الآن على اصحاب الشأن لانقاذ اللغة المندائية من الاندثار باعتبارها جزءا مهما من تاريخ العراق القديم والحديث وهذا من حقهم على العراق. ان احياء اللغة المندائية هو واجب على الحكومة العراقية الجديدة باعتباره عمل مؤسساتي النهوض به يقع ضمن اختصاص الدولة، كما حدث في سوريا على سبيل المثال. فبعد ان ادرك المختصون هناك اهمية اللغة الآرامية اخذت الدولة على عاتقها اقامة معاهد عديدة لتدريس اللغة الآرامية في معلولة ودمشق وجبعدين وغيرها، كما ادخلت الآرامية مادة من ضمن مواد المنهج الدراسي في الجامعات السورية، فانتعشت هذه اللغة في بلاد الشام من جديد. وفي جامعة بغداد استحدث في العام الماضي قسماً جديداً للغة السريانية (الآرامية) يترأسه الدكتور يوسف متي قوزي وقد احتفل مؤخرا بانتقال طلبة هذا القسم من الصف الأول الى الصف الثاني، لذا ينبغي على المندائيين المطالبة باضافة اللغة المندائية لهذا القسم ليكون قسما للغات الآرامية ـ يشتمل على كل من السريانية والارامية والكلدانية والمندائية ـ وليس قسما للغة السريانية فقط.

لقد اولى المستشرقين وعلماء اللغات السامية اهمية خاصة للغة المندائية مثل الألمانين بيترمان Peterman الذي زار العراق في النصف الأول من القرن التاسع عشر والتقى بالمندائيين في سوف الشيوخ ووضع كتابا عنهم وكذلك البرفسور ثيودور نولكده Nöldke T. الذي ألف كتاب قواعد اللغة المندائية باللغة الألمانية سنة 1875 م وكثيرون غيرهم، ولكن ماتزال هذه الكتب والدراسات طي الأدراج وعلى الرفوف، وكذلك الكتب المندائية التي لم تترجم لحد الآن، تنتظر من يلتفت اليها ويقوم بترجمتها علماً بأنها دراسات وبحوث لن تتكرر مرة اخرى. كما ينبغي عليهم جمع كل هذه المخطوطوات في مكتبة مركزية واحدة وتصنيفها وتبويبها ومحاولة استرجاع ما موجود منها في المتاحف والجامعات العالمية و إن لم يتيسر ذلك فعمل نسخ مصورة عنها على الأقل.

* لماذا يتحدث المندائيون الايرانيون بلغتهم المندائية وفي العراق هجروها للحديث بالعربية؟
ـ لقد دأب المندائيين في خوزستان ايران (الأهواز) على الاستمرار بالتحدث بالمندائية فيما بينهم الى يومنا هذا لكونهم محافظين اكثر ـ ان جاز التعبير ـ من مندائيي العراق، فهم اكثر تمسكا من اخوتهم في العراق بالطقوس وبالتالي اللغة. ونتيجة لاهمال السلطة الأيرانية انذاك للمنطقة العربية التي اصبحت تابعة لأيران فلم يتحول الكثير من ابناء المندائيين هناك الى التعليم العالي كما حصل في العراق وبقى اكثرهم بعزلته، ونتيجة لهذه الأنعزالية استمر صابئة ايران الى التحدث بلغتهم لحد الآن. ولكنهم اليوم يتمتعون في ايران ببعض الحماية وقليل من الحقوق اذ سمح لهم بأقامة مندي (معبد) صغير في الأهواز ومدرسة بسيطة لتعليم اللغة المندائية للأطفال، لكنهم، مع الأسف، مازالوا يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في الجمهورية الأسلامية حيث لا يحق لهم تبوأ اي منصب رفيع في الدولة. ان تأثيرات اللغة الفارسية بدت تطغى على كل من اللغة العربية والمندائية، ضمن خطة تفريس المنطقة، وبتقديري فأن اللغة المندائية في ايران ستتعرض الى ماتعرضت اليه في العراق. هناك جهود عظيمة يقوم بها بعض ابناء الطائفة للحفاظ على تراثهم ازاء هذه التحديات واخص بالذكر جهود رجل الدين المندائي سالم الكحيلي الذي يبذل كل وقته في تصنيف وصيانة المخطوطات المندائية وتسجيل بعضها صوتيا، كما انه اصدر كتابا مبسطا في القواعد المندائية ولكن باللغة الفارسية. وهي جهوداً ضئيلة،على اية حال، اذا ما قارناها بالمخاطر الجادة التي تهدد وجودها. ان الجنوب العراقي الذي كان يضج باللهجات البابلية والمندائية والآرامية والنبطية والعيلامية وغيرها قبل الأسلام قد تحول تدريجيا الى اللغة العربية لأن اللغة العربية اضحت اللغة الرسمية للبلاد، والمندائية لم يكن نصيبها افضل من غيرها في هذا المجال فتحول المندائيون كما تحول غيرهم، بسببب هيمنة اللغة العربية ولأسباب كثيرة يطول شرحها هنا، الى اللغة العربية وتخلوا عن لغتهم الأصلية.


* ماذا تعتقد يتوجب على المندائيين عمله من اجل احياء لغتهم التي لا يتحدث بها الابضعة مئات من الافراد؟ ماهي اهمية اللغة المندائية في الدراسات الأكاديمية؟ هل يشعر ابناء المندائية اليوم بانهم عرب ام انهم ابناء قومية مندائية عميقة الجذور في التاريخ؟
- ان من واجب المندائيين النهوض الآن من السبات الذي فرض عليهم على مدى قرون عديدة والسعي بكل حزم لتشجيع اولادهم على الالتحاق بالجامعات التي تدرس اللغات الآرامية والعبرية والأكدية من اجل بلورة نواة لغوية وثقافية تؤدي الى احياء اللغة والتراث المندائي على حد سواء وعناصر ديمومة كل من اللغة المندائية والتراث المندائي متوفرة، الا انها بحاجة للدعم المادي والمعنوي ومحاولة احياء هذه اللغة سيساهم بلا ريب في اذكاء جذوة البحث الأكاديمي. ان مسألة احياء اللغة المندائية هي مسألة مصير ووجود للشعب المندائي لكون اللغة هي الهوية القومية والحضارية وهي من الأسس التي يستند عليها وجود أي شعب حي، ولاحياة لأمة بدون لغة كما قيل. ولهذا ينبغي على المندائيين انفسهم بالعمل مع الجهات ذات العلاقة في العراق لصياغة القوانين التي تتيح لأبناءهم أن يتعلموا لغتهم الأم وان تتضمن هذه القوانين في الدستور العراقي الجديد. ان احياء المندائية سيؤدي الى اغناء حقيقي للتراث العراقي كله وانشاء مركز دراسات مندائية في العراق سيكون بمثابة نقطة جذب للباحثين والأكاديمين لدراسة هذا الشعب الغنوصي العراقي القديم الذي مازال مستمرا ليومنا هذا، وستساهم المندائية في انتعاش السياحة الدينية في العراق وسيتدفق الكثير من الذين يؤمنون بالمعمدانية وهم بالملايين في كل انحاء العالم على العراق للاطلاع على طقوس التعميد وهي تجرى من قبل رجال الدين المندائيين في النهر كما كان يفعل يهيا يوهانا (يحيى بن زكريا) منذ اكثر من الفي عام.
والشعب المندائي شعب رافديني قديم قائم بذاته له لغته ومعتقداته الخاصة وبقعته الجغرافية التي عاش عليها الآف السنين وليس نتاجاً جانبياً لأية حضارة اخرى. وباعتبارهم آخر من تبقى من الغنوصيين في العالم فالمحافظة عليهم وصيانة آثارهم هي مسألة تهم الأنسانية جمعاء. لقد سلط عالم اللسانيـات الكبير رودولف ماسـوخ R. Macuch ـ الذي ساهم في تأليف القاموس المندائي مع الليدي دراور ـ الضوء على اهمية كل من اللغة والعقيدة المندائية بقوله: "ان موضوع تطور العقيدة المندائية كان وما زال السؤال الرئيسي الذي يواجه الباحثين في تاريخ الأديان، وهذه معضلة لايمكن حلها على الاطلاق مالم تتم دراسة الموروثات الفكرية والأدبية المندائية وترجمتها وتقديمها بالشكل الصحيح."
ان اهمية اللغة المندائية تكمن في مسألتين اساسيتين :
أولاً: ان المندائية هي اللغة العرفانية ـ الغنوصية Gnosticالوحيدة التي استمرت الى يومنا هذا نتيجة لمأثورها الديني الضخم.
ثانياً: ان الكتب المندائية تشكل اكبر مكتبة غنوصية تم الحفاظ عليها من قبل المندائيين وصانوها من التلف والضياع.
ان اللغة المندائية هي اللغة الوحيدة القادرة على تقديم الفكر العرفاني ـ الغنوصي بشكله الحقيقي لما تحويه من بلاغة التعبير وثراء المعاني والصور. لقد صان البعد الجغرافي للمندائيين وانعزاليتهم في بيئتهم الخاصة ادبيات المندائيين من التأثيرات الهلنستية، مما جعل المندائيون اقل عرضة لأغراءات ملائمة افكارهم بما يتوافق مع الفكر الغربي (اليوناني) الذي ساد لفترة طويلة منطقة الشرق الأوسط بعد مجيء الأسكندر الأكبر، ولهذا يعتبر الأدب المندائي الأدب الوحيد النقي من تلك التأثيرات ولهذا اهمية كبيرة لدى المؤرخين وعلماء اللغات والأديان. ان الأدبيات المندائية تتمتع بمثلوجية فريدة مكتنزة بالصور البلاغية الشعرية الغير موجودة في باقي المعتقدات ولهذا فهي اللغة الوحيدة التي من خلالها يستطيع الدارسون النفاذ الى الفكر والمعتقد الغنوصي العصي على الفهم احيانا. كما ان المندائية هي احدى المكونات اللغوية للعراق القديم والحفاظ عليها هو حفاظ على حضارة بكاملها تمثل مامر بالعراق من حضارات والشعب المندائي هو سليل تلك الحضارة العظيمة.
وعلى اهمية كل من اللغة المندائية والتراث المندائي يؤكد العالم الألماني الكبير ثيودور نولدكه Nöldke بقوله:
" ان دراسة العقيدة المندائية والأدبيات المتعقلة بها ستؤدي بنا الى فهم أكبر للمعتقدات الغنوصية التي انقرضت منذ زمن بعيد والى فهم تأثير المندائية على من تزامن معها او من جاء بعدها من معتقدات وأديان."

* هل وجدت صعوبات كبيرة في رحلتك المستمرة في الترجمة من المندائية الى الانكليزية والعربية؟
- نعم، الترجمة من لغة قديمة وفك رموزها امر صعب للغاية خصوصا لأن اغلب هذه النصوص محاط بغموض طقسي خاص، كما هو الحال مع كافة النصوص الغنوصية. بالأضافة الى القواعد اللغوية التي تتباين وفقا لزمان الحدث واقصد تصريف الأفعال خصوصاً وان المفاهيم اللغوية الموجودة في تلك النصوص قد مضى عليها زمن طويل وليس من اليسر التوصل الى تفاسير لها ونحن بعقلية القرن الحادي والعشرين. ان المترجم يضيع احيانا في متاهة صيغ الأفعال والأعادات المتكررة للجملة الواحدة مع تغير مواقع الكلمات مثال على ذلك: "عند بوابة منزل ابدوني / وضع عرش للجني / للجني وضع عرش / وأمامه وضع اناء / انه ينادي على السحرة قائلا: / تعالوا، اسقطوا في الإناء / تعالوا في الإناء اسقطوا / تعالوا كونوا على بينة من انفسكم / على هذا ماكنتم انتم قد اقترفتم في العالم." ومن الأسباب الأخرى لصعوبة ترجمة النص يكمن في ان اللغة المندائية مدونة بشكل نص متصل غير منفصل بنقاط او علامات تشير الى بداية ونهاية الجملة ناهيك عن الأخطاء الاملائية والنحوية التي وقع بها النساخ. ومن العوائق المهمة التي تجابه المترجم ايضا ان الكثير من هذه النصوص مكتوب بطريقة مشوبة بالغموض الخاص بالاهوت الخلاصي للنفس (النشمتا) soterioligy بحيث لاتتيح لمن هو غير مخول بفهمها، كما ان العديد من الطقوس يتم تناقلها شفاها من جيل الى جيل بين رجال الدين وهذا يشكل عائق آخر نحو فهم هذه النصوص. في الحقيقة ان اهمال النساخ واخطائهم النحوية تضيف كثيراً الى الصعوبات التي تلاقي المترجم وهنا تبرز الحاجة الى لجنة من الأكاديميين ورجال الدين المندائيين كي تقوم بتحقيق هذه النصوص وطبعها بصيغها الصحيحة بعد ان تتم مراجعة ومطابقة النص مع مصادر اخرى لنفس النص ان توفرت. ان الترجمة من المندائية القديمة تستدعي استثمار الدراسات الحديثة في الترجمة و الاستفادة من التراث المندائي في نقل المعلومة وان يكون المترجم على وعي تام بما سيتلقاه القارئ المندائي وغير المندائي لأن الخطأ في نقل المفاهيم والمصطلحات قد يؤدي الى تشويه النص نتيجة لتباين المعاني تبعا لمفهوم النص وزمانه خاصة وإن المخطوطات المندائية تعود الى حوالي الفي سنة. وعلى العموم تبقى ترجمة هذه المخطوطات والدواوين مغامرة على من ينوي خوضها ان يكون ملما باللغات ذات العلاقة كالعربية والآرامية والعبرية والأكدية لوجود مفردات وقواعد نحوية مشتركة بين هذه اللغات كما ينبغي عليه ان يكون ملماً بتاريخ وادي الرافدين ومنطقة الهلال الخصيب والموروث الحضاري والأسطوري لهذه المنطقة امتدادا من حران شمالا وحتى القرنة جنوبا حتى لا ينساق وراء الدلالة العربية لكلمة اسطورة على انها خرافة بما تحويه من مدلولات سلبية على الترجمة في الفكر العربي. وكل هذا يتطلب، كما هو واضح، لجنة من المختصين بهذه المجالات يعهد اليها بترجمة الكتب المندائية.
لقد استغرق الوصول لصيغ مقبولة لترجمة الكتب المقدسة كالأنجيل (العهد القديم والعهد الجديد) مثلا عن الآرامية واللاتينية قرونا عديدة واشترك في هذه الترجمة خيرة علماء اللاهوت و اللسانيات المسيحيين واليهود الى ان جاءت بهذه الصورة المتقنة التي نقرأها في الطبعات العربية. ان شروع المندائيين بترجمة كتبهم المقدسة هو بادرة تستحق التقدير والتشجيع لأنها ستؤدي بالنهاية الى اضاءة مجالات الا مُفكر فيه في التراث المندائي وستحفزهم لتبني نقل كتبهم الدينية الى اللغة العربية ولاحقا الفارسية ـ لوجود جالية مندائية كبيرة في أيران لا تجيد العربية ـ والأنجليزية ـ لأجيال المندائيين التي ستنشأ في المهاجر ـ لكون المندائيين هم الأولى والأحق في استخلاص مكنونات تراثهم ولغتهم وفك طلاسمها بدلا من تركها للمستشرقين الذين أفادوا منها كثيرا في مجالاتهم الأكاديمية. والترجمة ليست بالمهنة الغريبة على الصابئة المندائيين فقد برعوا فيها منذ القدم كما برعوا في العلوم والطب والهندسة والفلك والشعر والصياغة.