لقاء مع المخرج العراقي ليث عبد الامير

حاوره محمد موسى: بعد الحرب الأخيرة وسقوط نظام صدام حسين أنتظر الكثيريين ظهور الصورة، صورة العراقي من داخل العراق، صورة متلهفة للعراقيين خلف الجدار العالي، صورة تؤسس لزمن جديد بعد عقود من سجن واهتراء صورة واحدة بتكرارها البشع. مع الحرب عرضت الشاشات التلفزيونية صورا للعراقيين الهاربين من القتال والموت، بدوا حيانا كمسا جين غيبتهم سجون مظلمة لسنوات، لكنهم عادوا رغم كل الشيء الى الصورة ليتصدروها بالسنتهم وبهيئاتهم، السنتهم هم لا السنة وزارة الثقافة الحزبية او عشرات المخبريين الذين أحكموا صنع الصور القديمة. الصور الاولى للعراقيين أيام الحرب شهدت تردد الكثيريين عن الكلام وكان كلام البعض غير مفهوما ومرتبكا فالعراقي الذي لم يكن باستطاعته الا استلام بث القنوات العراقية الرسمية أربكته ان يكون هو من يتصدر الصورة والحدث...هو وليس رئيسة، هو نفسه وليس صورته المهرجة على شاشة النظام الواحد. بشارات ظهور صورة العراقي لم تدم طويلا، سرعان ما عاد(العراقي ) الى النسيان او الى ما يشبه النسيان، الشاشات العربية والعالمية استبدلت صورة العراقي بصور اخرى لعراقيين ملثميين او سياسيين فاشليين او رجال دين غاضبيين. عادوا العراقيين الى سجن صور أخرى وبالكاد يظهروا هنا وهناك على شاشات لا ترضيها الصور الحقيقة واصحابها. فلم ليث عبد الامير يشتغل على صورة العراقي المغيبة، ربما لذلك منح فلمه هذه التسمية الشعريةquot; العراق أغاني الغائيبينquot;. حمل المخرج كاميرته ليبحث عن هؤلاء الغائبيين ولم تكن مهمته صعبة على الاطلاق فهم في كل مكان حوله. لا يهم كثيرا اذا قطع المخرج طريقه من البحر الى الجبل او سلك دروبا أخرى فالعراقيون بمعظمهم هم الغائبون عن الصورة. نسمع بأعداد المقتلويين منهم او أعداد من ذهبوا الى الأنتخابات لكننا لا نراهم الا بصعوبة. حتى عندما أنتشر المخرجون وتجاوزت المحطات الفضائية العراقية العشرات تكدرت صورتهم أكثر وزاد أبتعادها وحلت محلها صورة العراقي الحزبي والديني والطائفي.
يتنقل المخرج ومعه فريقه في أنحاء العراق يحاول ان يسجل الغياب ويرصده، من الأهوار الى البصرة والى جنوب العراق ثم الى بغداد يمر المخرج سريعا على عراقيين يخضون صراعاتهم الذاتية والجماعية.
كل قصة من قصص شخصيات الفلم او التي مر عليها الفلم تستحق الانتباه والاسى، سكان أهوار منسيون، مطرب يغني بخفية حبيبيته في أحد بساتيين الناصرية خائفا من المتطرفيين، مثقفوا شارع المتنبي في بغداد، الطلاب الأكراد في السليمانية، طلاب من مدينة الحلة يشيعون استاذهم الذي قضى في واحدة من العمليات الارهابية، امهات عراقيات بين قبور اولادهن، العراقيون المسيحيون في كنائس خائفة...

لا أعتقد ان فلم ليث عبد الامير يجب ان يحاسب بشكل فني تماما فالمخرج الذي تحدث الى أيلاف يعرف اكثر من شخص آخر ما ينقص فلمه المعبر. طموح المخرج الكبير الى أنجاز فلم عن العراقيين بكل تنوعاتهم أضعف ما يمكن ان يفعله التركيز على واحده من صور الفلم المؤثرة، هناك أمر غائب في السيناريو، شيء او حدث او حكاية تربط الفلم تماما وتمنحه القوة التي تستحقها مقاربة المخرج واسلوبه.
بالطبع كان الوضع الامني في العراق السبب الذي جعل الفلم يتخذ هذا المنحى الذي يبقى رغم كل شيء واحد من أهم الأفلام التي أنجزت عن العراق ما بعد نظام صدام حسين. مشاهد العراقيين الذين مر بهم المخرج تبقى في البال وتشير الى جهد المخرج وفريق عمله بخلق علاقات ثقة مع النا س بحيث بدت مشاهد طقوسهم الدينية طبيعية ولم تتأثر بوجود الكاميرا والمسلحيين الذي كانوا برفقه فريق العمل لحمايته. هناك أيضا وعي كبير بتنفيذ المشاهد الدينية العاطفية مثل مشاهد العزاء الحسيني حيث نجح المخرج في نقل حزن الناس وتأثرهم مع بقاء الكاميرا والمشهد كله بعيدا عن العاطفية الزائدة المخرج قدم في فلمه مجموعة مبهرة من المثقفيين العراقيين ومنحهم الفرصة التي يستحقونها للحديث عن مجتمعاتهم وظواهره الدينية والسياسية. هناك حضور للمراة المثقفة ايضا ودورها الذي يتضائل أسرع من دور زميلها الرجل في مجتمع يبدو انه يتجه بأكمله الى الغياب.. ايلاف أجرت اللقاء التالي مع المخرج ليث عبد الامير حول فلمه quot;العراق أغاني الغائبيينquot;.

*متى بدات الفكرة للفلم؟ وهل سيناريو الفلم كان واضحا ومكتملا قبل الذهاب للعراق والبدء في التصوير ام كثير من الاشياء تغيرت عند وصولك الى العراق ومواجهة الوضع الامني المضطرب هناك؟
- سافرت في مطلع عام 2005 الى العراق وفي حقيبتي اليدوية النسخة الفرنسية لسيناريو يختلف كثيرا عن الذي نشاهده عبر مشاهد الفلم ومساره، لم أعد الى نسختي الفرنسية هذه بعد إن حطّت ساقيّ أرض العراق، ولم أخمن حتى شكل فيلمي الجديد إلا بعد أن أنهيت المونتاج الاولي في إستديوهات باريس فالفيلم كان عصارة من الألم والمتاعب المشحونة بالخوف والترقب لا التأمل والاستـلهام، الارتجال لا التخطيط هو سيد الموقف لا غير تركت خلفي في قمامة ببغداد ستة أشهر من الكتابة والاعداد للفيلم والعمل مع نخبة من الاصدقاء لصياغة سيناريو عبر الحدود عن وطن يولد أو يموت يوميا ألف مرّة دون إرادة منه..

* تعاملت مع مصوريين وفنيين من العراق كيف كانت تجربة العمل مع عراقيين لم يمروا بتجربة العمل خارج العراق او العمل في مشاريع كبيرة؟
- بعد أن جربت مجموعة من محترفي التصوير التلفزيوني والهواة أيضا لم اتوصل الى خامة فيلمية مقنعة من الناحية الجمالية وبعد بحث وترقب إمتدا لحوالي إسبوعين وجدت ضالتي في مصور ناشيء له تجربة فوتوغرافية أكثر منها تلفزيونية أو سينمائية ويملك رغبة شديدة بالتعلم فأعددت له دورة تدريبية لعدة أيام حمل بعدها الكاميرة ليصبح رفيق رحلتي والعين التي أنظر منها. وبهذه المناسبة يبدو لي أن العمل مع خامات جديدة أفضل بكثير من العمل مع محترفين تعودوا على أساليب وأخلاقيات ليس من الضرورة أن تكون صالحة،فأحيانا نتعلم أشياء مغلوطة نعتبرها مسلمات لا يجب مناقشتها، وكلّنا يعلم تدني مستوى التعليم في العراق في الحقبة الاخيرة.

* مشاركة الطبقة المثقفة العراقية بالفلم مشاركة لافتة جدا، هل كانت الاسماء الموجودة في الفلم معروفة لديك ام انك التقيتها اثناء تجوالك هناك؟
- أمّـا المثقفون ؟ فالرحلة هي إكتشاف الطبيعة والبشر والحجر والنخيل في وقت واحد ولم تكن الامور مبيتة خاصة بعد أن هجرت السيناريو الاولي وتركت المشهد يتكون لذاته فالاعداد والبناء السينمائي المدروس مفردات لا تصمد أمام عفوية المشهد العراقي الذي يمكن أن تصنعه طلقة أو سيارة مفخخة أو خطأ المرور أمام رتل أمركي وما إلى ذلك من مفاجأت وهنا لا بدّ أن أنوه لمدى تقدير العراقيين لقوّة الصورة وأهمية الاعلام بحيث يتحول الكل الى ممثلين محترفين حال مشاهدتهم عدسة الكاميرة وهنا أعرّج على حديثك عن حميمية اللقطات وتعامل الناس مع الكاميرة، الكل يريد أن يؤدي رسالة عبر الشاشة الصغيرة، إنه شكل من مقاومة الصمت والحرمان إمتـّد لاكثر من بضع عشرات من السنين وهذا لا يلغي في بعض الاحيان عدائية البعض ضد الكاميرة وتخوفهم منها فهي يمكن أن تأتي بما لا يحمد عقباه، والافضل لدى البعض الابتعاد عن هذه العدسة اللعينة التي تجلب العيون الشريرة وما أكثرها وهذا حال العراقيين في مناطق يسيطر عليها أناس معادون للعماية السياسية.

* غطى الفلم تقريبا العراق من الجنوب الى الشمال دون ان يمر بالمنطقة الغربية، هل ان الوضع الامني حال دون الوصول هناك؟
- يفتقد الفلم الى المنطقة الغربية والى أماكن مهمة كنت أتمنى أن أسجلها في هذه الرحلة، ليكتمل النسيج العراقي المبهر ولكن المفخخ! الفلم صور مطلع عام 2005 ولنتذكر حال العراق وهو يدشن أول إنتخابات ولنتذكر وعود وبيانات الارهابيين في إحراق العراق وقتل من يدعم العملية السياسية، هذا الجو المشحون بالقتل والخطف أفرغ الساحة العراقية من عدسات التصويروتراجع الاعلاميون الى غرف الفنادق المحروسة والمددجة بالسلاح لرسم المشهد العراقي من هناك ورغم قرارنا عبور البلد من أقصاه الى أقصاه،و في مثل هذا الحال، كانت هنالك أماكن أوصدت أبوابها في وجوهنا وغابت عنها السطة تاركة المكان لشريعة الغاب ومنها مدن وقصبات غرب العراق لانعدام الحد الادني من الامن والاستقرار. وأود أن أنوه الى أن عدسات التصوير أصبحت عدوا للسلطة وللامريكان والارهابيين على حد سواء. وهذا واقع الحال..

* الفلم رغم انه يغطي مساحة جغرافية كبيرة ويتعرض الى مسائل كثيرة لكنه بقى محافظا على تماسك ما هل كانت مهمة المونتاج مهمة صعبة؟
- في غرف المونتاج يصنع الفلم سواء كان تسجيليا أم روائيا فالمادة الفلمية المسجلة هي الحروف التي سترتب بها لغتك في ماكنة المونتاج وكلما إعتنيت بانتقاء مفرداتك ويقابله شريطك الفلمي كلما سهل عليك صياغة جملتك.. في quot; أغاني الغائبينquot; وبسبب حداثة تجربة الفريق التقني ترتب علينا التخلي عن مشاهد لا تقدّر بثمن بسبب من خلل هنا وضعف هناك مما جعل المونتاج عملية في منتهى الصعوبة وأصبحت المفاجآت سيدة الموقف وكإنها إستمرار للرحلة. وهذا حال ليس جديدا على السينما التسجيلية، وعلي أن أسجل هنا شجاعة الفريق من الشباب الذين رافقوني في هذه الرحلة التي لا تشبه أية رحلة.

*هل ستعود مرة أخرى قريبا الى العراق؟ واذا عدت فهل هناك مشاريع جاهزة؟
- من الخطأ أن لا يفكر أي سينمائي عراقي بالعودة الى العراق ليغسل عدسته بماء دجلة والفرات ولتستظل كاميرته تحت سعف نخيله أو تجوب أزقته وطرقاته لتسجل همسات أهله وهم المغيبون عن أدنى شروط الحياة الكريمة.