مسكون بالأبيض والأسود وموزارت وأم كلثوم
آخر ملوك الرتوش في غزة عاشق من الزمن القديم

أشرف سحويل من غزة: quot;على هامش حياتنا كثير من الفنانين ممن زوتهم الحياة، و تقلبّت عليهم الأيام دون أن يلتفت إليهم أحد، أو أن يكتشفهم أحد، مع أنهم بارعون في تشكيل جوانب حياتنا، وتكوين وقائع بهجتنا، ومسح الدموع عن وجناتنا، نلمس أثارهم في بيوتنا وجامعاتنا وشوارعنا و أزيائنا وألبوماتنا نصادفهم كل يوم و كل لحظة، في ورشهم ومعاملهم ومحلاتهم دون أن سيتوقفوننا، لأنهم عادة يحتاجون إلى عيون مدربة،خبيرة،تلتقط لحظات تجليهم و تكشف عن جوانب ابداعاتهم و أدواتهم البسيطة بساطة حيواتهم ذاتها. من هؤولاء المصور الفنان عبد المالك أحمد الأستاذ quot; أبو محمد quot; آخر ملوك quot;الرتوشquot; في فلسطين و الفوتغرافي المسكون بالأبيض والأسود والموسيقى السمفونية والكلاسيكية حدّ الهوس في زمن الحاسوب والكوداك والزوم، لم تؤثر عليه التكونولوجيا، وكل ما طرأ على عالم التصوير من تطور وتقنيات، فظل و فيّاً لأدواته و كاميراته ومعمله وظل زبائنه من الصبايا والشبان أوفياء له يأتونه رمزاً وفرادى لإلتقاط صوراً بالأبيض و الأسود تذكرهم بلحظة رومانسية جميلة من لحظات حياتهم.

فن التصوير يتملكني
في محلة quot; ستوديو quot; الحمراء quot; مقابل حديقة الجندي المجهول وسط غزة يفاجئك بهدوئه الشديد،خلف واجهة زجاجية عريضه تحمل بروازاً يتمياً لإمرأة ثلاثينية بالأبيض و الأسود، منهمكاً في عمله على إيقاع الموسيقى يضع لمسة هنا، و أخرى هناك ثم يختفى في ظلمة معملة فتخرج الصورة من بين يديه لوحة فنية براقة، تعود بك على الفور إلى زمن شادية و أم كلثوم و عبد الحليم.
يتنهد أبو أحمد و يقول quot;لإيلاف quot;التي زارته في الستوديو الخاص به : quot; ظهرت لدى هواية الرسم منذ طفولتي و كانت فكرة التصوير تستهويني و في عام 1962م بدأت أتعلم أساسيات و أصول فن التصوير بإستديو quot; نهاد quot; الذي أصبح يعرف فيما بعد باستديو quot; كوداك quot; و من يومها امتهنت هذه المهنة التي أحببتها و أصبحت تتملكني، حيث عملت مصوراً للحاكم المصري لقطاع غزة عبد المنعم حسن حسني، كما عملت مصوراً صحفياً بجريدة فلسطين التي كانت تصدر في غزة قبل الاحتلال الإسرائيلي للقطاع عام 1967 ثم انتقلت للعمل في رام الله لعدة سنوات قبل أن أفتتح هذا الأستديو في أوائل السبعينات، و الذي لا زلت أحتفظ حتى هذه اللحظة بإسمه وكل المعدات التي بدأت العمل بها quot;.
و يؤكد أبو أحمد أن مهنة التصوير تحتاج إلى فنان و ليس لإنسان عادي و يرى أن أى فنان قبل أن يكون مصوراً يجب أن تستهويه الطبيعة لأن الطبيعة، تخرج من الإنسان حاجة يجسدها في الصورة.

التقنية الحديثة تفقدني موهبتي
و حول سر تعلقه باللونين الأبيض و الأسود و تدرجاتهما و رفضه إدخال أية تقنية حديثة إلى معمله يقول أبو أحمد : أنا مسكون باللونين البيض و الأسود و بطيعتي أميل إلى هذين اللونين و تدرجاتهما و يضيف مستدركاً صحيح أنني في حياتي أفصل بينهما فصلاً شديداً و لكن في عالم الصورة أؤمن بالعلاقة التدرجية و الإندماجية بين هذين اللونين و ما

أبو أحمد يحلي وجها
يخرج من خلالهما من ظلال و ألوان بحكم توزيع الإضاءة التي أتحكم بها و أوزعها على زوايا الصورة بالشكل الذي أريد، و بما يتلاءم مع ما يجرى تصويره، أما بالنسبة للتقنية الحديثة بما فيها الأبيض و الأسود فيرى أبو أحمد أنها صماء و تحرم المصور من أمور كثيرة خلال عملية التصوير و الطبع و بإختصار شديد تحول بين الفنان و موهبته و التى هى أساس عملة فالصورة كما يراها أبو أحمد خلاصة إحساس و إمعان نظر لا يمكن ترجمته بالكلام والمصور الفنان وحده هو القادر على إلتقاطها بالكاميرا البسيطة و في اللحظة المناسبة و بالإضاءة و الكيفية التي يُريد.
وهى فضلاً عن ذلك تحرمه من متعة إضافة الرتوش، تلك اللمسات الفنية quot; الريتاش quot; Retacth quot; التي يقوم المصور بإضفائها على الصورة بقلمه الرصاص و يشرح أبو أحمد هذه العملية بقوله quot; الرتوش عبارة عن لمسة فنية quot; ريتاش أقوم من خلالها بمزج حده انكسار الضوء، فمثلاً اذا كان شخص لديه ضعف في نقطة معينة أتدخل بالتظليل لتصليح شكل الصورة بإضافة هنا و أخرى هناك، كما أتدخل في اختيار الجلسة و زاوية التصوير و تحديد الإضاءة.

لو لم أكن مصوراً لكنت جراح تجميل
يضحك أبو أحمد و يقول لو لم أكن مصوراً لكنت جراح تجميل أدواتي بسيطه بضعة أقلام رصاص F+ HB و صندوق خشبي هرمي الشكل تتوسطه لامبه كهربائية و به فتحه شفافة تثبت عليها الصورة وأستطيع من خلالها رؤية الصورة quot; النيجاتف quot; بوضوح نتيجة إنعكاس الضوء حيث أتدخل بالرتوش قبل أن أصل مرحلة الطبع بإستخدام بعض المواد الكيميائية البسيطه و خلال هذه العملية المركبة أشعر بالمتعة.

زبائني من الصبايا و الشباب
و حول الزبائن الذين يرتادون الاستديو يؤكد أبو أحمد أنهم من كافة الأعمار و لاسيما الصبايا و الشبان من طلبة الجامعات الذين يعشقون هذا النوع من الصور و لايزال لديهم حس فني و حنين رومانسي و يحبون أن يسجلوا بالصورة الكلاسيكية فترة جميلة من فترات حياتهم لا يجدونها في الصورة الملونة و التي بات الطلب الرسمي عليها هو الغالب في حياتنا هذه الأيام، أو من الشباب الذين لا تعجبهم الصورة الحديثة و يحبون أن يجُروا بعد التعديل على ملامحهم الشخصية و يضحك أبو أحمد و يقول : quot; الفتاه السمرا تحب أن ترى لون بشرتها أبيض أو تغير لون عينيها و أنا أنفذ الكثير من طلبات الزبائن و أُغّير حجم الشفاه و أخفي عيوب الأنف أي أقوم بعمليات تجميل في المظهر و الإضاءة و الرتوش و مزج الظل و هذه أعمال لا يمكن أن يقوم بها الكمبيوتر و يذكر أن فتاة صاحت بلهفة عندما رأت الصور التي التقطها لها : quot; هذه أول مرة تطلع لى فيها صورحلوة quot;.

تلوين الصورة يعطى لها روحاً
و حول الصور التي يقوم بتلوينها قال أبو احمد و هو يعرض علينا جانباً من إرشيفه المغلف بجرائد تعود لأكثر من ثلاثين عاماً هنا تكمن المهمة الأصعب و المهمة الحقيقية للمصور الفنان !! فأنا من خلال التلوين أشعر أنني أمارس عملي كمصور فني و أبسط عالم الفن دون تعقيد بإستخدام ألوان زيتية، تلوين الصورة يعطى لها روحاً و حياة و يضفى عليها جمالاً حيث تصبح الصورة لوحة فنية مكتملة قال ذلك و هو يعرض علينا صورة شخصية له قام بتلوينها قبل ثلاثين عاماً، تشعرك للوهلة الولى أنها رسمت رسماً أكثر من كونها صوراً فوتغرافية.

رومانسي عاشق للموسيقى
الأسعار التي يطلبها أبو أحمد من زبائنه بسيطه، رغم ندرة هذا النوع من الصور التي يلتقطها و هو يقوم بعمله في أجواء غاية في الرومانسية تشعرك بعاشق متيم مشدود إلى أجواء من الموسيقى و هو مولع بموزارت و بيتهوفن و شايكوفيسى و فيروز و أم كلثوم و عبد الحليم حافظ و يحتفظ بالكثير من الأشرطة لهم quot; إلى جانب مسجله quot; البانوسونيك quot; القديم quot; و يمقت الأغنية الشبابية و لايحب أن يشاهدها أو يسمعها، كما يمقت حمل الهاتف النقال.
و يعلن أبو أحمد دون مواربه أنه مزاجي يرفض أحياناً تصوير بعض الزبائن الذين لا يتوافقون مع كيميائه متذرعاً بإنتهاء الأفلام و الإنشغال الشديد في العمل.

كيغو و أسرار البرواز
و حول علاقته بتلك المراة الثلاثينية التي ما زال يحتفظ بصورتها و حيدة منذ ثلاثين عاماً في واجهة محله و ما إذا كان حان الوقت لإطلاق سراحها قال أبو أحمد : هذه الصورة تعكس مرحلة طريفه من حياتي، و هي مرحله البدايات و الرابط الذي يربطني بصاحبتها هو رابط العمل و الوفاء فهذه الصورة لسيدة فلسطينية من أصل أرمني اسمها ليغو أززيان

بعد كل هذه الرتوشات: من سترفض الزواج منه
ووزجها سورين أززيان كان مصوراً في ستديوم برام الله عام 1971 حيث بدات العمل في الخليل و بعد وفاة و الدى أصبحت مسؤولية إضافية تقع على عاتقي، فتوجهت إلى رام الله و هناك و بالصدفه دخلت إلى ستديو الحمراء و عرضت على زوجها العمل في المحل كمصور شامل ( تصوير و رتوش و طبع و تلوين ) و هو عمل يفتقده معظم مصوري رام الله في تلك الأيام و فعلاً بدات أتردد على المحل للعمل في التلوين و بعد أن توفى زوجها انتقلت للعراق و غابت سبعة أشهر لفك الحداد و كنت أذهب إلى رام الله يوم الجمعة و أأخذ جميع الصور من المحل و أطبعها دفعة واحدة كل أسبوع إلى أن وفقني الله بفتح هذا المحل فجاءت إلى غزة و باركت لى المحل و أهدتني هذا الكرسي الدوار الذي لا زلت أحتفظ به و لما كان الوضع في غزة في تلك الأيام لا يسمح بوضع صور نسائية على واجهات محلات التصوير طلبت منها أن أضع لها صورة في واجهة المحل فوافقت و بعد ان قمت بطبع الصورة و تلوينها و هي مقاس 50times; 60 سم و رأتها إكتفت بالإبتسام و بعد ذلك سافرت و إستقرت في مدينة تورنتو بكندا و كنت لا زلت لعهد قريب أراسل هذه العائلة التي أكن لها كل احترام و تقدير.

كثيرون اساءوا الظن لي
يتوقف أبو أحمد قليلاً و يبتسم ثم يقول لست وحدك من يسىء الظن بي فكثير من الناس جاءوا و سألوني عن هذه الصورة بل أن أبا على شاهين وزير التموين السابق و إبراهيم أبو النجا نائب رئيس المجلس التشريعي سابقاً سألاني ذات يوم عن سر احتفاظي بهذه الصورة و من تكون صاحبتها فقلت لهم فلسطينية من أصول أرمنية و سأفرج عنها يوم إغلاق المحلquot;.فأنا مسكون بالرومانسية و أحتفظ بأرشيف لجميع الصور أما هذه الصورة فهي عزيزة على و أحتفظ بها كنوع من الوفاء الممزوج في داخلي بعشق فن التصوير.

في ذاتي شيىء لم يخرج بعد
و حول النصيحة التي يوجهها لمصوري هذه الأيام يقول أبو أحمد quot;المصور يجب أن يكون موهوباً فناناً قبل كل شيىء و أن يتعلم أصول الفن و عليه أن يدرس أصول التشريح للوجه و أنواع الإضاءة و زوايا إلتقاط الصورة قبل أن يمتهن هذه المهنة التي تحتاج إلى الكثير من الصبر و الحب و انا ما زلت اتعلم و اشعر أن في ذاتي شيئاً لم يخرج بعد quot;.