ليبيا، ذلك البلد الذي يحمل في جغرافيته وتاريخه مفاتيح الدور المحوري في شمال إفريقيا والمتوسط، يقف اليوم عند مفترق طرق المصير. فمنذ أكثر من عقد من الزمن، تآكلت البنى السياسية والاجتماعية وتضررت، وانهارت مؤسسات الدولة المركزية تحت وطأة النزاعات، فيما أصبح المواطن الليبي يعاني من شبح الانقسام وفقدان الأمن والتنمية. في هذا السياق، تصبح الحاجة إلى مصفوفة خلاص سياسي واقتصادي واجتماعي أكثر من مجرد خيار، بل ضرورة وجودية لحفظ البلاد واستعادة كيانها.

الأزمة الليبية ليست مجرد صراع بين أطراف متنازعة على السلطة، بل هي انعكاس لتداخل عوامل داخلية وخارجية معقدة جدًا. داخليًا، تعاني ليبيا من انقسام مجتمعي بين مناطقها المختلفة نتيجة قولبة مقصودة للخطاب الإعلامي الذي يستهدف ليبيا الأرض والإنسان، ومن تفشي الجماعات المسلحة التي تحولت إلى قوة تعرقل وحدة الدولة ومفهوم الدولة. أما خارجيًا، فإن الصراعات الدولية والإقليمية جعلت ليبيا ساحة مفتوحة لحروب الوكالة، حيث تتصارع الأجندات الدولية على الموارد والموقع الاستراتيجي للبلاد.

في ظل هذا الواقع المتشابك، تصبح مصفوفة الخلاص أداةً استشرافية لرسم خريطة طريق تستند إلى الواقعية، مع التأكيد على المبادئ التي تضمن سيادة ليبيا ووحدتها واستقلال قرارها الوطني.

المحاور الأساسية لمصفوفة الخلاص الليبية تبدأ من الجيش، عمود الخيمة الليبية. فالجيش الوطني الليبي ليس مجرد قوة عسكرية، بل هو الركيزة الأساسية التي تضمن بقاء الدولة واستمرارها. محاولات إضعاف الجيش أو تقويض دوره هي بمثابة تقويض لهيبة الدولة نفسها. يجب أن يكون الجيش قوة وطنية موحدة، بعيدة عن التجاذبات السياسية والقبلية، تعمل تحت مظلة قيادة ليبية جامعة كحارس للسيادة. تعزيز دور الجيش يتطلب إعادة هيكلته وفق معايير احترافية ليحتوي كل الجماعات الأخرى الراغبة، وأكرر الراغبة، في بناء ليبيا الدولة، وتجهيزه ليكون قادرًا على فرض الأمن ومواجهة التحديات، مع التأكيد على أهمية حصر السلاح في يد الدولة وحدها. بدون جيش قوي، تصبح المصالحة الوطنية والتنمية الاقتصادية مجرد أحلام بعيدة المنال.

ثاني أركان المصفوفة هي المصالحة الوطنية كونها مفتاح السلام الداخلي، ولن تستطيع ليبيا استعادة استقرارها دون تحقيق مصالحة وطنية شاملة تُنهي الانقسامات المجتمعية، وتعيد بناء الثقة بين مكونات الشعب. المصالحة لا تعني تجاوز الماضي أو نسيانه، بل مواجهته بشجاعة من خلال آليات العدالة الانتقالية، بما يضمن إنصاف الضحايا دون تأجيج الكراهية. يجب أن تكون المصالحة عملية شاملة، تشمل كافة الأطراف السياسية والقبلية والاجتماعية، وتستند إلى الحوار المفتوح بعيدًا عن الإقصاء أو الاستقواء. ليبيا بحاجة إلى مشروع وطني يوحد الجميع تحت راية واحدة، بعيدًا عن النزعات الانتقامية التي تؤدي إلى مزيد من التفكك.

إقرأ أيضاً: الإشعاع الخفي: قتل صامت دون أثر

إعادة بناء المؤسسات هي ركيزة الدولة الحديثة، ولا يمكن أن تنجح أي مصفوفة خلاص دون بناء مؤسسات دولة قوية وفعالة. المؤسسات هي العمود الفقري لأي دولة، وهي الضامن الوحيد لاستدامة الاستقرار. في الحالة الليبية، يتطلب ذلك إصلاح النظام السياسي ليكون أكثر شمولية ومرونة، مع التأكيد على الفصل بين السلطات وضمان استقلالية القضاء. أن إعادة بناء المؤسسات يجب أن تتم بتوافق وطني يضمن مشاركة كافة الأطراف في صياغة مستقبل البلاد، بعيدًا عن هيمنة طرف على آخر.

الخطوات الثلاث السابقة يجب أن تتزامن مع بناء وإنعاش الاقتصاد، مفتاح السيادة والتنمية. ولا يمكن تحقيق الاستقرار السياسي دون استقرار اقتصادي. النفط، الذي يُعدّ شريان الحياة في ليبيا، يجب أن يُدار بطريقة شفافة وعادلة تضمن توزيع الثروة على كافة مناطق البلاد. يجب أن تركز السياسات الاقتصادية على تنويع مصادر الدخل، وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، وخلق فرص عمل للشباب الذين أصبحوا بين سندان الغربة ومطرقة الاستغلال من قبل الجماعات المسلحة.

إقرأ أيضاً: الصحراء المغربية: الحتمية التاريخية والسياسية للوحدة الوطنية

وهنا لا بد من تدشين ثورة موازية لا تقل أهمية عن أي عناصر المصفوفة، إلا وهي الدبلوماسية المسؤولة والسيادة الوطنية. فلإنجاح أي مصفوفة خلاص، يجب أن تكون ليبيا قادرة على استعادة سيادتها كاملة، بعيدًا عن التدخلات الأجنبية التي زادت من تعقيد الأزمة. السياسة الخارجية الليبية يجب أن تركز على بناء علاقات متوازنة مع كافة الأطراف الدولية والإقليمية، دون الانحياز لأي محور على حساب الآخر.

شخصيًا، أعتقد أن الرؤية الاستشرافية توصلنا إلى مفهوم (ليبيا الممكنة). مصفوفة الخلاص ليست مجرد خطة قصيرة الأمد لتجاوز الأزمة الحالية، بل رؤية بعيدة المدى تستهدف بناء ليبيا جديدة، مستقرة وموحدة، تكون نموذجًا للسلام والتنمية في المنطقة.

إقرأ أيضاً: الحضارم: أبناء الحضارة وصناع النهضة

هذه المصفوفة تتطلب إرادة سياسية حقيقية من كافة الأطراف الليبية، مع دعم شعبي يدرك أن خلاص البلاد مسؤولية مشتركة. إذا استطاعت ليبيا استعادة وحدتها الوطنية، وتعزيز جيشها ومؤسساتها، فإنها قادرة على التحول من بلد يعاني الانقسام إلى دولة تساهم في استقرار المنطقة والعالم.

أردد دومًا أن ليبيا لديها قدرة على الاستشفاء الذاتي. ليبيا اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف مصيرها. مصفوفة الخلاص هي الأداة التي يمكن من خلالها تجاوز الانقسامات، وتعزيز السيادة، وبناء مستقبل يليق بتاريخ هذا البلد العريق وشعبه العظيم. ولكن النجاح يتطلب أن يتقدم الجميع خطوة نحو الوفاق والتوافق، واضعين مصلحة ليبيا فوق كل اعتبار.