كتب بشار القيشاوي:عن رابطة الشعر و الثقافة الرومانية و بدعم من المجلس الأعلى للثقافة لدول الاتحاد الأوروبي صدر أنطولوجيا الشعر الروماني المعاصر تحت عنوان quot; ذاكرة من البلورquot; وهذه الأنطولوجيا الثانية للشعر الروماني بعد quot; أكاليل الغار quot; و الأنطولوجيا الشعرية السادسة للشاعر و الأديب منير مزيد..
تحتوي الأنطولوجيا على 160 قصيدة لـ 25 شاعرة و شاعر روماني معاصر وعلى على مقدمة بقلم الشاعر والأديب الفلسطيني د. شجاع الصفدي و قراءة في الشعر الروماني المعاصر بقلم الشاعر والناقد الفلسطيني والمقيم في قطر محمود فهمي عامر والتي جاء فيها ..
لن أعود إلى ماضي الأدب الروماني وعلاقته بغيره، وبين يدي من جهة: حاضره الممزوج بمعارفه الحدسية والاستبطانية المعبرة عن وجوده الاستثنائي، وأشارك من جهة أخرى خلال الإنترنت: مترجمه منير مزيد متعة التذوق الفني في طبيعته المحدقة بالأنا الرومانية وخطابها الإنساني.
ما يهمني في الأدب الروماني المعاصر تلك الضرورة الإنسانية الناضجة التي مضت به على نحو إلهامي إلى أسرار الكون بقناعة أساطيرها، حتى غدا الشعر كما قالت ميهاييلا ألبو (مثل الحبِّ خارج الزمن) أو:
بِداية العالمِ - شعر!
مَصوغ بالضوءِ
مَصوغ بالحياةِ
عاش في الأحلامِ
طير العنقاء - شعر !
* * * *
مستقبل الاستعارة
لون الأملِ
وغبار مِنَ النجومِ
تكبحُ بيجاسوس
تُعطي أجنحتَه للحبيبة
لتطير بعيداً بعيدا
ما بعد الغيومِ
وبهذا الفهم الضوئي واستعاراته تشكلت ملامح الأدب الروماني الذي فرض هيبته على الساحة الأدبية العالمية حتى أصبح حياة تتنفس الصبح، ومثالا يحتذى، ويقينا ثابتا في قول كلارا مرجينانو:
كُنْتُ أَعْجنُ الضوء بذراعي
كُنْتُ أَرى ظِلَّكَ على الحائطِ
كُنْتَ تَرْقصُ في مرآةِ جسدي
ضممتك بقوة على صدري
بالحبِّ والحزن
حين كنت قاتلي
لهذا لن تستطيع قتلي
لِهذا سَأكُونُ لَك
مجرد حياة
إنها الضرورة المحلقة بمواقفها الدرامية وأناها المتعالية التي تحمل في حقائبها شعار الرضا عن ذاتها المعتمدة على دلالة الكلمة، وقوة الحدس، واللحظة المعاصرة المختمرة بخيالها في مشوار إبداعها الملتزم بمشروعها الإنساني، وتجربتها الفريدة المتمردة على واقع لا يستمد وجوده من دلالاته السحرية، هي قصيدة ماورائية كما حباها كاسيان ماريا سبيردون، وهي كما وردت في عنوان قصيدة الشاعر أوريل بوب (مادة الشاعر الخام التي لا تتعطل أبدا):
بين مزاجين في متحفِ القرية
في العاصمة
واحد يُعلّمُ أسلوب المسير الاحتفالي
حيث تَستقرُّ الحروف في جذورِ الصرخةِ
لا أحد يستطيع أَنْ يَعتقلَ الكلمات
التي تَفِيضُ بمادة الشاعر الخام
التي لا تتعطل أبدا
وهذه الحالة الإنسانية الرومانية الحالمة بعالم غير مألوف كان لها دور كبير في تلوين أعمال المتأثرين بهذا الأدب، الذي ساهم من جهة أخرى في تغيير بعض المفاهيم المتعلقة بعالم القصيدة الكونية وشروطها العالمية.
ومن هنا يأتي دور الترجمة الواعية، من هذه النافذة المعنوية التي تحمل نسمات هذا الفهم الإبداعي الروماني بمداد التواصل الإنساني والعطاء الثقافي والحضاري؛ ليصل أريجها إلى كل مكان يؤمن بهبة الخيال ومتعة التذوق الفني الخلاق دون قيد أو حصار في مسيرة مخاضها الفني وولادتها العالمية.
وأول العطاء عندي يكون بأثير الترجمة التي تحسن اختيار النصوص المثيرة بذبذباتها الصالحة للامتداد العالمي والتوافق الحضاري والثقافي.
وهذا العطاء الذي أعنيه لا بد أن يحمل في طياته قلق التأثير والشعور بالمسؤولية، وعلاقة المترجم بعمله المتتابع الذي يمنح للقارئ خيارًا نحو الدخول إلى عالم نصوصه المختارة من مداخل متعددة للمثاقفة أو الانفتاح على الثقافات.
نعم، لم تعد عملية الترجمة عملا ثانويا، ولا يمكن أن نعاملها معاملة دونية أو على أنها أقل حظا من أنشطة ثقافية أخرى، كما عبر عنها يوما الناقد والشاعر الإنجليزي دريدان في مقدمة ترجمته لملحمة الشاعر الروماني فيرجل الإنيادة: (نظل عبيدا نعمل في حقل إنسان آخر، نزرع العنب، ولكن النبيذ لصاحب الأرض)، وعلينا أن نفهم أن النص قبل الترجمة يعد أصليا وبعد الترجمة
كذلك، بل ربما كانت الترجمة حياة لنص ميت ولقارئ محدود الثقافة العالمية مثلي.
لقد صدق هيكل عندما قال: الأغبياء وحدهم هم الذين لا يغيرون آراءهم، وليس عيبا أن يعترف الإنسان بتقصيره وفضل الآخرين عليه، فقصتي مع الأدب الروماني تفسر هذه الحالة المتعانقة، حيث كنت أعتقد أن حدود الترجمة تنتهي بالأدب المقارن المجحف بحق النصوص وبيئاتها المتنوعة، ومن هذه الطاقة الضيقة التي تفرق ولا تجمع كانت لي قراءات محدودة مع الأدب الروماني وغيره، ولم تصل إلى مرحلة التذوق المنهجي كما عبرت عن ذلك في لقاء مع صوت رومانيا العالمي حتى شاء الله أن أتصل فنيا بالأدب الروماني والعالمي مع الشاعر والروائي والمترجم الفذ منير مزيد الذي يعد حلقةَ الوصل بيني وبين هذا الأدب، بل حلقةَ الوصل مع كثير من المثقفين عبر الإنترنت، حيث اطلعتُ خلال التعاونِ معه على معظم الإنتاج الروماني المعاصر، وكتبت فيه وناقشت الأدباءَ والمتخصصين في المنتديات الثقافية حول طبيعته العالمية وسماته الفنية، وكان من ثمرات هذا التبادل المعرفي والدراسات الترجمية منتدى بيت الحكمة.
لم أتوقعْ أن يكونَ الأدبُ الروماني المعاصر بهذا الوجود الحضاري والإنساني، وذلك البهاءِ الفني قبل قراءتي ومراجعتي لدوايين رومانية، لقد قرأتُ معظمَ الشعراءِ قراءةً واعيةً قبل هذا العمل، من مثل قراءتي لـ: الإعلاميين يونا ماتو، وفيكول، والشاعرة إميليا ستانسكو، والأستاذة الجامعية ميها ألبو، ولكن تجربتي الحقيقية مع هذا الأدب العظيم كانت خلال تقديمي لديوانين شعريين من ترجمة منير مزيد، الأول بعنوان: (فسيفساء الروح) لشاعرة الإنسانية كورينا ماني غيرمان، والثاني للشاعر الفيلسوف والمثقف دينيّا ماريوس كيلارو بعنوان: (نحو شفاه السماء)، ووجدتُ نفسي خلال العملين في فضاءٍ حضاري وإنساني يعبق أدبا عالميا منافسا، وعدت بذاكرتي إلى عطاء أجدادنا وموسوعاتِهم عندما كان العطاءُ لأجل العطاء الإنساني لا لشيء آخر.
بهذه الترجمات الصادقة للأدب الروماني، وبتلك الأعمال المشتركة، تجد نفسَك في كل قصيدة مع لغةٍ جديدة وصورةٍ مبتكرة تختلف عن غيرها من الصور، عندما تقرأ في الأدب الروماني تشعر بتلك الأجواء الخاصة لشعراء مختلفين فنيا يحترمون الذات الإبداعية المتجددة، ولست مغاليا عندما أقول تجد شعراء يخصصون لأنفسهم آلهة يعشقونها في أعمالهم الأدبية تذكرنا بشياطين الشعراء، فهذه الشاعرة أوارا كريستي تقول:
آه إلهي
وحيد ومتألق ومتعب جدا
هكذا اخترته
وفي المقابل عندما نقرأ غيرَهم وأخصّ جانبا من الأدب العربي المعاصر ترى نفسك فيه مع ذات القوالب الشعرية التقليدية وتوارد الخواطر كما يقولون، ومن ظهر بلون لا يغيره وربما اتّهم غيرَه إن خالف طريقته، أما الأدبُ الروماني فله طعمٌ وصوت ولون وحركة ورائحة في صورته الكلية الكاملة، تجد النصَّ الواحدَ بلغة الموسيقار، وريشة الرسام، وخيال الأطفال.
إنه الأدب الروماني الذي يعد تحفةً فنيةً يستطيع الناقدُ خلالها أن يمارسَ جميعَ نظرياته ومصطحاته النقدية، ففيها الأصلُ والأثر، والسيميائيةُ، والاختلاف، والتكراريةُ، والتقويض، هو أدب عالمي بامتياز يحاكي الإنسانيةَ بجاذبيةٍ عجيبةٍ وفلسفةٍ مثيرة، ويحلق بعيدا في الخيال، ويحفر عميقا في الحواس؛ فتشعر وأنت تقرأ الأدبَ الروماني وكأنك في كرنفالٍ أدبي عالمي بحداثته وما بعد حداثته بمرآتِه ونصوصِه المفتوحةِ والمغلقة والمقروءةِ والمكتوبة، أقول إنه أدبٌ ليلكيُّ الملامحِ أرجوانيُّ الطلة ملكيّ الأجواء، وهو أدبُ المبادرةِ الإنسانيةِ والحضاريةِ والابتكارِ الجمالي الذي تجاوزَ أسوارَ المحليةِ بعدما أفاد من أساطيرها وموروثاتها وبيئتها وعبر عنها بلغةٍ أدبيةٍ منتشرةٍ صافية بمواصفاتها العالمية، والرومان كما تعرفت إليهم خلال أخي منير مزيد يبحثون بتواضع الأديب عن الفن الحقيقي والجمال أينما كان، ويختارون، كما عبر أوريل بوب في قصيدته (حج الانشقاق في السعي في منتصف النهار)، لبقع القصيدة صفقة الكلمات الموحية، ثم يتساءلون بعد ذلك على لسان فاليريو ستانكو في قصيدته (الحلقة المظلمة ساعة دخان): مِنْ يُعْتَقَدُ بأنَّهُ يَكْتبُ الكلمات؟! وهذا هو سرُّ تواجدِهم الإبداعي وحضورهم الثقافي.
بقي أن أقول: إن ما يميز منير مزيد في الترجمة أنه يعيش في العمل قبل الشروع في ترجمته، وليست الترجمة في مفهومه عملا للتكسب أو الشهرة، بل هو العشق للأدب، وعندما يكتب منير مزيد شعرا تجد الأثر الروماني فيه جليا، حتى إنني في بعض الأوقات أرى ما ترجمه عن الرومانية كأنه من شعره، وفي المقابل عندما أقرأ شعره أعيش أجواء الشاعر الروماني، وكأنه ينقل إلينا شعرا مترجما عن الرومانية، هذه الحالة الإنسانية المتأثرة بغيرها عاشها شعراء المهجر كميخائيل نعيمة في مجموعته القصصية (كان ما كان) خصوصا في قصته القصيرة: (ساعة الكوكو)، هذه الساعة التي عبرت عن واقع حياتهم المهجرية، أما منير مزيد فقد عاشها في قصيدتين للشاعر لوتشيان فاسيليو، الأولى بعنوان: (جدليات) والثانية: (بوستش الفأر):
قليلاً قليلاً
تبْدأُ ماكنةُ خياطةِ الكلمَةِ
بالعملِ
تاك ..تاك .. تاك...تاك
قليلاً قليلاً
يَمُوتُ الحصانُ وهو يَرْعى...
****
تغيَّبتُ أثناءَ النداءِ المسائيِّ
حُكِمَ عليَّ بثلاثِ ليالٍ
حراسة ليلية
الأمرُ :
لا تدعْ بوستش الجرذ يدخلُ
وتَركتُهُ يأتي
يَقْضمُ أصفادِي:
كرانتز كرانتز كرانتز
ولهذا العمل المشترك أقول: لقد جعلتما أيها المبدعان اللغة في نظام مشترك يعكس ثقافة مشتركة تؤهل القارئ لحياة مشتركة بعيدا عن فقهاء اللغة وأزمة القلق التي أرقت المترجمين الغائبين عن نصوصهم المترجمة أثناء تلاعبهم النصي وعلاقتهم بالآخر الغريب والشعور بالهامشية أثناء ذلك، مؤسسين مفهوما جديدا في الترجمة الثنائية المتكافلة التي تعيش واقعين مختلفين فتختار منهما واقعا واحدا مشتركا يصلح للشريحة المستهدفة قبل الشروع في الترجمة.
وحاليا يعمل شاعرنا الكبير على إعداد و ترجمة أضخم أنطولوجيا للشعر العربي المعاصر
والتي ستحتوي على ما يزيد عن 400 قصيدة شعرية و على إعداد و ترجمة أضخم أنطولوجيا شعرية مترجمة للعربية وهي أنطولوجيا شاعرات أوروبا المعاصرات والتي لاقت ترحيباً واسعاً من الأوساط الثقافية في أوروبا وهذا سيعزز حضور شاعرنا بقوة على الساحة الأوروبية و الدولية .
وفي حوار مع الشاعر مزيد أكد إن هذه الأنطولوجيا ستكون الأهم في تاريخ ترجمة الشعر قائلا : أريد أن أرى كيف ستقوم رابطة الكتاب الأردنيين ، هذه العصابة الحقيرة وكل من يساندها من قوى التطرف والفساد ، أعداء الثقافة و الإبداع ، في منعي من تحرير الشعر من سجنهم المعفن.
- آخر تحديث :



التعليقات