بهدوء يليق برحلته الممتدة عقودًا في العطاء والقيادة، رحل الأمير كريم الحسيني، الآغا خان الرابع، عن عمر يناهز 88 عامًا في لشبونة، مخلفًا وراءه إرثًا إنسانيًا وثقافيًا يمتد عبر القارات.
إيلاف من لندن: في مشهد يلفّه الحزن، ودّع العالم رجلًا امتزجت في شخصيته الأبعاد الروحية مع الطموحات الاقتصادية، الزعيم الروحي للمسلمين الإسماعيليين، الأمير كريم الحسيني، الآغا خان الرابع، الذي رحل عن عمر يناهز 88 عامًا، في العاصمة البرتغالية لشبونة، محاطًا بأسرته. وفاة رجل بهذه القامة لم تكن مجرد حدث عابر، بل لحظة فارقة في تاريخ الجماعة الإسماعيلية والعالم الإسلامي بأسره، لما كان يمثّله من جسر بين الروحانية والحداثة، وبين التقاليد والمشاريع التنموية الطموحة.
خلال رحلة تزلج في كيتزبوهيل، النمسا، في عام 1957
الوريث الروحي لإرث يمتد لقرون
وُلِد كريم الحسيني في جنيف عام 1936 لأسرة يعود نسبها المباشر إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ووجد نفسه في قلب مصير محتوم لم يختره بنفسه. فبعد وفاة جده، السلطان محمد شاه، في عام 1957، تسلّم الأمير كريم زعامة الجماعة الإسماعيلية وهو في سن العشرين، متجاوزًا والده الأمير علي خان، الذي عُرف بأسلوب حياته المترف، حيث رأى الجد أن أتباع الطائفة بحاجة إلى قائد "نشأ في العصر الحديث" ليواكب تطورات الزمن.
في خطاب تنصيبه كإمام للمسلمين الإسماعيليين، قال الآغا خان إنه يرى قيادته "استمرارية للإيمان، لكن في إطار يتلاءم مع احتياجات الحاضر والمستقبل". ومنذ تلك اللحظة، بدأ رحلة استثنائية، لم تقتصر على الوعظ والتوجيه الروحي، بل امتدت إلى العمل التنموي والاقتصادي، ليكون قائدًا ليس فقط لطائفته، بل لمشاريع عالمية كان لها أثرٌ بالغ في حياة الملايين.

وجد المال لخدمة الإنسان
منذ توليه الإمامة، لم يكتفِ الآغا خان بالدور التقليدي للزعيم الروحي، بل أسّس شبكة ضخمة من المشاريع التنموية التي غطّت نحو 30 دولة، مع تركيز خاص على آسيا وأفريقيا. عُرفت هذه الشبكة لاحقًا باسم "شبكة الآغا خان للتنمية"، التي أصبحت إحدى أكبر المؤسسات التنموية غير الحكومية في العالم، حيث كانت تضخ نحو مليار دولار سنويًا في مشاريع الرعاية الصحية، والتعليم، والبنية التحتية، والبيئة، والتنمية الاقتصادية.
لم تكن رؤيته مقتصرة على تقديم المساعدات، بل على خلق اقتصاد مستدام في المجتمعات الفقيرة، عبر توفير فرص العمل وبناء الكفاءات المحلية. صاغ فلسفته التنموية في عبارة تلخص نهجه: "لا جدوى من الذهاب إلى الاقتصادات الغنية التي تمتلك مواردها الخاصة، لذلك نذهب إلى الاقتصادات الفقيرة جدًا، حيث يكون التغيير الحقيقي ممكنًا".
الآغا خان يتزوج سارة كروكر بول في باريس، 1969
إرث من العطاء
على الرغم من أن الآغا خان كان زعيمًا دينيًا، إلا أنه كان أيضًا رجل أعمال بارعًا، جمع ثروة ضخمة بلغت نحو مليار دولار وفق تقديرات مجلة فوربس لعام 2008. هذه الثروة لم تكن مجرد ميراث، بل تضخّمت عبر استثمارات متنوعة، شملت البنوك، والفنادق، وشركات الطاقة، بالإضافة إلى عشقه الخاص لتربية الخيول الأصيلة.
كان أحد أبرز ملاك الخيول في أوروبا، وصاحب مزارع تمتد بين أيرلندا وفرنسا والمملكة المتحدة، واشتهر بحصانه الأسطوري "شيرغار"، الذي فاز بسباقات كبرى في الثمانينيات، قبل أن يُختطف في حادثة غامضة لم يُكشف لغزها حتى اليوم. ورغم فقدانه لأحد أعز خيوله، لم يتخلَّ الآغا خان عن شغفه بهذه الرياضة، ليحقق لاحقًا انتصارات كبرى مع خيول أخرى في سباقات عالمية.
تقدير عالمي
بصفته زعيمًا لطائفة يصل تعدادها إلى نحو 15 مليون نسمة حول العالم، كان الآغا خان شخصية تحظى بتقدير دولي واسع. منحته الملكة إليزابيث الثانية لقب "صاحب السمو" في عام 1957، واحتفظ بعلاقات وثيقة مع كبار قادة العالم، ومن بينهم الملك تشارلز الثالث، الذي عبّر عن حزنه العميق لفقدان صديقه.
امتاز بقدرته على التوفيق بين الحداثة والتقاليد الإسلامية، وكان يُنظر إليه على أنه جسر بين الشرق والغرب، خصوصًا مع تجنّبه الانخراط المباشر في السياسة. ركّز جهوده على الحفاظ على التراث الإسلامي، حيث أسّس جائزة الآغا خان للعمارة، وساهم في ترميم مواقع إسلامية بارزة، مثل ضريح همايون في الهند، والمدينة القديمة في القاهرة.
خلال سباق الجائزة الكبرى في سان كلو في باريس، فرنسا، عام 1961
الرحيل.. وما بعده
مع إعلان وفاته، سارعت شخصيات عالمية إلى الإشادة بإرثه. رئيس وزراء باكستان شهباز شريف وصفه بأنه "رجل ذو رؤية، كرّس حياته لمساعدة الفقراء والمحرومين"، فيما قالت الناشطة الباكستانية ملالا يوسفزاي إن "إرثه سيظل حيًا في مشاريع التنمية التي أطلقها حول العالم". من جانبه، نعى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الآغا خان، قائلًا: "كان رمزًا للسلام والتسامح، في عالم يفتقر إلى التعاطف والتآخي".
تنصيب الأمير كريم الحسيني الإمام التاسع والأربعين للطائفة الإسماعيلية بعد وفاة جده الآغا خان الثالث عام 1957
من سيخلفه؟
بحسب التقليد الإسماعيلي، يتم تحديد الإمام القادم عبر وصية سرية تُقرأ بحضور العائلة وكبار رجال الدين، وهو ما سيحدث خلال الأيام المقبلة في لشبونة، حيث سيتم الإعلان عن اسم الزعيم الجديد الذي سيواصل قيادة الجماعة الإسماعيلية. وحتى لحظة كتابة هذا التقرير، لا تزال الأوساط الإسماعيلية والعالمية تترقب من سيحمل الراية بعد الآغا خان الرابع.
برحيله، يفقد العالم شخصية جمعت بين الزعامة الدينية والرؤية الاقتصادية والتنموية. رجلٌ عاش بين القصور الفارهة والطائرات الخاصة، لكنه في الوقت ذاته كان يضع نصب عينيه معاناة الشعوب الأكثر فقرًا، ويعمل على إحداث تغيير حقيقي في حياتها. إرثه لا يُقاس بثروته الهائلة، بل بمئات المدارس والمستشفيات والمشاريع التي تركها خلفه، شاهدة على عقود من العمل الدؤوب.














التعليقات