بعد استقالة الحكومة، تشعبت اللعبة السياسية اللبنانية أكثر، مع فرض الحراك الثوري نفسه مكونًا جديدًا فيها، ومع تمسك حزب الله بتأثيره في الحكومة والشارع.

إيلاف من بيروت: في يوم جديد في السياسة اليومية اللبنانية، تنشط فيه المساعي للتوصل اليوم إلى حل آخر، مختلف عما كان سائدًا في الأيام السابقة. ففي الأمس، كان الحديث يدور حول طرقات مقفلة وشارع ملتهب، بينما تطور هذا الحديث اليوم ليتناول طرقات شبه مقفلة وشارعا ملتهبا... وحكومة مستقيلة.

يقول سياسيون كثر إن رئيس الحكومة سعد الحريري أدخل البلاد في نفق مظلم باستقالة حكومته، حتى إن بعض المواقع الإخبارية الموالية للسلطة في لبنان تستخدم تعبير "انهار الحريري" أمام الشارع الثائر.

ماذا بعد؟
من سيتولى رئاسة الحكومة اللبنانية بعد الحريري؟، يبقى هو الأوفر حظًا، خصوصًا أن عودته إلى سدة الرئاسة الثالثة تعيد مياه التسوية الرئاسية التي أتت بميشال عون رئيسًا للجمهورية إلى مجاريها.&

من جانبه، أكد الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أنه مع الحريري إذا قرر العودة إلى رئاسة الحكومة، "ولن نشارك في حكومة لا يترأسها الحريري".

لكن في ظل الاستشارات النيابية الملزمة، لا يكفي رأي جنبلاط. ففي البرلمان 20 نائبًا لكتلة المستقبل، و15 نائبًا لكتلة القوات اللبنانية، و9 نواب لكتلة اللقاء الديموقراطي، و4 نواب لكتلة نجيب ميقاتي، و3 نواب لكتلة الكتائب اللبنانية، وهي الكتل التي ربما تسمّي الحريري رئيسًا للحكومة، فيصل عدد نوابها إلى 51 نائبًا.

في البرلمان أيضًا 27 نائبًا لكتلة لبنان القوي، و3 نواب لكتلة المردة، و35 نائبًا لحزب الله وحركة أمل، و3 نواب لكتلة الحزب السوري القومي الإجتماعي، إلى جانب نواب مستقلين، بينهم سنة يوالون حزب الله، ومعهم النواب إدي دميرجيان وميشال المرّ وفؤاد مخزومي وأسامة سعد وعدنان طرابلسي، وهي الكتل التي قد لا تسمّي الحريري، ويصل عدد نوابها إلى 78 نائبًا. &

بالتالي، إن قرر حزب الله وأتباعه من القوى السياسية اللبنانية معاقبة الحريري على استقالته من الحكومة، فيمكنهم حرمانه من فرصة تأليف الحكومة الجديدة.

مكون جديد
لكن دخول الحراك المدني الثائر مكونًا جديدًا فرض نفسه في الصيغة السياسية اللبنانية يلغي بعض المعايير، خصوصًا أن آلية الحكم كما كانت في السابق لم تعد مقبولة من الشعب اللبناني، الذي يطالب بتسريع تأليف حكومة مستقلة من الاختصاصيين، تنقذ الوضع الاقتصادي من الإنهيار، وتلبي تطلعات الشعب الثائر بإقرار قوانين استرداد الأموال المنهوبة تحت شعار "كلن يعني كلن".

إن تمسك الحراك الثوري اللبناني بهذا الشعار ربما سيصعب الأمور على الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، والمتمسكة بامتيازاتها من دون الإصغاء إلى صوت الشارع الذي استفاق أخيرًا، وخرج من قيوده الطائفية مطالبًا بمحاسبة عامة لمن سرق 800 مليار دولار من المال العام اللبناني، وأدخل البلاد في مأزق الدين الذي لا يمكن الخروج منه.

يتم تسريب عدد من الأسماء السنية التي دخلت في "بازار" التأليف الحكومي، على رأسهم رئيس الحكومة السابق تمام سلام، خصوصًا أنه يلقى قبولًا في الشارع بفضل سمعته الطيبة.&

لا يعير الحراك الثوري اللبناني الأسماء اهتمامًا، ما دام مطلبه الأساس هو حكومة مستقلة من الاختصاصيين، لا تأثير للأحزاب عليها.&

لكن، هل يرضى حزب الله عن ذلك؟.. هل يسلم حزب الله بحكومة لا يملك فيها التأثير، ولا تمده بالتغطية التي يحتاجها اليوم أمام هجمة العقوبات الأميركية؟.

ماذا يفعل حزب الله؟
قالت صحيفة "اللواء" اللبنانية في افتتاحيتها إن استقالة الحريري أسقطت&لاءات ثلاث أطلقها أمين عام حزب الله: عدم استقالة رئيس الجمهورية واستقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، وهكذا فإن الاستقالة المفاجئة تطرح علامات استفهام حول المواقف التي يمكن أن يتخذها الحزب.

تضيف الصحيفة أن حزب الله في موقف صعب. فهو أعلن منذ تشكيل الحكومة عن نيته شن حرب شعواء ضد الفساد، لكنه شكك في أهداف الإنتفاضة، حيث ذهب إلى التشكيك بها وإتهامها بالعمالة. كما عوّل منذ انطلاق الانتفاضة على احترام خطوط حمراء حددها أمينه العام، وعلى قدرة الجيش والقوى الأمنية على احتوائها وإفشالها بفتح الطرقات وإخلاء الساحات.&

بحسب الصحيفة، فشل حزب الله في تقديم المساعدة السياسية اللازمة لإنجاح المساعي التي إضطلع بها الحريري لتعديل الحكومة، والتخلص من بعض الرموز داخل مجلس الوزراء، والتي ساهمت في تكون السخط الشعبي الذي شكل الدافع الأساسي للإنتفاضة.&

تضيف "اللواء" أن عناصر من حزب الله حاولت التعرّض لساحات الانتفاضة تكرارًا في محاولة لإحراج القوى الأمنية، ودفعها إلى فض الانتفاضة، ويدفع هذا إلى التساؤل عن الخطوة التي يمكن أن يتخذها الحزب كتدبير احتياطي لاحتواء الهواجس والمخاطر الناشئة من خسارته المظلة الواقية التي كانت تؤمّنها له الحكومة.

قبل الاستقالة
نقلت صحيفة "الجمهورية" عن رئيس البرلمان نبيه بري قوله: "لم نترك شيئًا إلّا وقمنا به في محاولة لاحتواء الموقف، وعدم بلوغ الأزمة الحدّ الذي بلغته. وقد سعيتُ شخصيًا إلى إقناع الحريري بعدم الاستقالة، إلّا أننا اصطدمنا بإصراره عليها".

وعن ماذا بعد الاستقالة، قال: "لا شك في أنّ الوضع دقيق وحساس، وتنبغي مقاربة ما حصل بكثير من التعقل وعدم الانفعال، والحؤول دون حصول أي أمر من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدًا. المطلوب هو أن تسود الحكمة ولغة الحوار بين المكونات اللبنانية في معالجة الأمور، خصوصًا أنّ صورة الأزمة ليست طائفية أو مذهبية".

سُجّل في عين التينة وَقع سلبي لاستقالة الحريري، عكسه بري أمام زوّاره الثلاثاء، مشددًا على وجوب اليقظة، ومنع كل ما من شأنه أن يُشعل توترات من هنا وهناك، أو يدفع إلى دَفع الشوارع إلى أن تقف في مواجهة بعضها بعضًا.

انقلبوا عليه
اليوم، بعدما استقال الحريري غير سائل عن رأي حلفائه الجدد في الحكومة والحكم، مثل أمل وحزب الله، اللذين دفعا بأنصارهما لمواجهة المحتجين الغاضبين دفاعًا عن الحكومة، انقلب عليه إعلام "المقاومة"، لأنه كسر كلمة أمين عام حزب الله حسن نصرالله الذي أكد في خطابين أنه سيمنع سقوط هذه الحكومة.

أولى بوادر هذا الانقلاب قول جريدة "الأخبار"، الموالية لحزب الله، إن الحريري "لم يكُن يعمل على خط واحد، بل اعتمد سياسة اللعب على الحبال. ففي وقت واصل فيه عقد لجان وزارية، رافضًا كل تمنيات القوى السياسية عقد جلسة للحكومة، أقله لإظهار جدية في تنفيذ بنود الورقة المالية – الإصلاحية بهدف تنفيس الإحتقان في الشارع، كانَ يعقُد اجتماعات سرّية يومية مع مجموعات في الحراك للبحث في خيار حكومة التكنوقراط والطلب إليها وضع أسماء مقبولة في الشارع. ويتهم خصوم الحريري رئيس الحكومة بأنه كان يسعى إلى مد جسور مع الناشطين على الأرض، بقصد الظهور أنه إلى جانبهم وأنه يؤيّد مطالبهم تمهيدًا لاستقالة تجعله خارج شعار "كلن يعني كلن". لكن الأخطر، اعتبار قوى التسوية أن الحريري عمل على تلبية رغبة خارجية في استكمال الإنقلاب الهادف إلى تغيير موازين القوى في السلطة.

أضافت "الأخبار": "قالت أوساط بارزة في جماعة 8 آذار إن الحريري كان يتذاكى في موضوع الورقة الإصلاحية التي وقعها كل أهل السلطة على بياض، فيما كان هو يستثمر في الحراك مانعًا التعرّض للمتظاهرين وفتح الطرقات، كما أصر على استبعاد باسيل وإخراجه من الحكومة. وهو أكد أمام المعنيين أنه لم يعُد قادرًا على تحمّل باسيل والتعايش معه، وأن شرطه الوحيد للبقاء داخل الحكومة إجراء تعديل يطال بالدرجة الأولى وزير الخارجية قبلَ أي وزير آخر".