ايلاف من المغرب: في كتابه "السودان على طريق المصالحة" للاكاديمي والدبلوماسي الموريتاني محمد الحسن ولد لبات، الصادر ضمن منشورات المركز الثقافي للكتاب ببيروت، نكون مع "حديث واصف" لتجربة وساطة الاتحاد الأفريقي التي نجحت في لم شمل الفرقاء السودانيين، عقب الإطاحة بالرئيس السابق عمر حسن البشير.

ويقول ولد لبات إن كتابه هو محاولة لتدوين شهادته على "فعل وتفاعل حي وصادق مع الأحبة السودانيين من مختلف المشارب والطموحات"، مشددا على أنهم "أهل القضية والصانعون أولا وأخيرا للنتيجة المتميزة على طريق المصالحة والسلام والتحولات الديمقراطية والتقدم الذي تستحقه الأمة السودانية تحت الإرادة الراشدة بإذن الله لشركاء الحكم الانتقالي".

إهداء
الكتاب مهم، ممتع ومفيد:مهم لأنه ينقل لجوانب من كواليس وساطة الاتحاد الأفريقي في الأزمة السودانية على لسان فاعل أساسي فيها، بشكل يوفر فرصة لأخذ فكرة عن المشهد السوداني من جهة، والتعرف على مثال ناجح لطريقة تدبير مثل هذه الملفات والاستفادة منه لتحقيق النجاح في مناطق نزاع أخرى من جهة ثانية. وهو ممتع لمضمونه السردي الدافئ وسلاسة أسلوب كتابته وطريقة استعراض أحداثه وأدوار الفاعلين في تدبير الأزمة السودانية. كما أنه مفيد بالنظر لما استحضره من تجارب وخبرات وما اقترحه من قناعات، وبما تضمنه من آراء وأفكار لعدد من كبار المفكرين والسياسيين.

وتتوزع الكتاب، الذي أهداه ولد لبات إلى "تلاميذ الأبيض الذين هدرت دماؤهم الطاهرة وأزهقت أرواحهم الزكية في مسيرة سلمية .. على طريق المصالحة والسلام"، خمسة محاور رئيسية، تحت عناوين: "سياق الوساطة"، و"إنضاج الوساطة"، و"مسارات الوساطة"، و"تحديات المرحلة الانتقالية"، وصولا إلى "تساؤلات حول المستقبل"، فضلا عن كلمة تقديمية من توقيع عمر كوناريرئيس جمهورية مالي الأسبق ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي الأسبق.

أكثر من حديث واصف
يبقى كتاب ولد لبات أكثر من مجرد "حديث واصف" لتجربة وساطة في الأزمة السودانية، ينقل لكواليس المفاوضات بين الأطراف السودانية. إنه درس في الوساطة وفي تقاسم تجربة غنية على طريق المصالحة والسلام في بلد إفريقي، حيث نكون مع جوانب تبرز خصال وفلسفة ولد لبات، بخلفية العارف والملم بخبايا ومتطلبات مهمته كوسيط، لذلك يختم الكاتب مؤلفه، بالقول إن "الدروس المستخلصة من الوساطة الإفريقية في السودان، بإيجابياتها وسلبياتها، جديرة بالاعتبار لأكثر من سبب"، مشددا على أن "النزاهة الفكرية" تملي عليه "واجب التطرق إليها ومساءلتها والإصغاء إلى همساتها المعبرة، بما في ذلك ما يقتضي الحياء أن يظل طي الكتمان أو يتدثر في الوقت الراهن بطاقية الإخفاء".

خصال صانع السلام
إلى جانب تركيزه على مسلسل الوساطة وكواليسها وكذا الصعوبات التي اعترضته، يتوسع ولد لبات في استعراض جملة من الأخطاء الجسيمة ومقابلتها بالخصال التي يتعين على صانع السلام أن يتحلى بها. قبل ذلك لا ينسى الإشارة إلى العبر والدروس التي استفادها من عدد من الأساطين الأفارقة المشهود لهم بالخبرة الدبلوماسية والتجربة الطويلة المتميزة في المنظومة الدولية. يقول: "كل منهم، بدرجة أو بأخرى، قد أثر فيّ، أو أمدني باقتراح، أو دلني على طريق أو اتجاه، أو علمني تقنية، أو حيلة، أو مفتاحا لحل لغز، أو ردة فعل، أو عبارة، أو مفهوما، أو حكمة، أو وصفة، أو قولا مأثورا"، قبل أن يشدد على أن المرء لا يمكنه أن يرافق هؤلاء الأعلام دون أن يستفيد منهم شيئا ما. ثم يضيف، بتواضع الكبار: "أنا نوعا ما منتَج غير مكتمل تماما تربى على أيديهم في ولوجه فضاء الوساطة لحل الأزمات وبلورة الحوارات السياسية المعقدة".

في سياق إبرازه للأخطاء الجسيمة ومقابلتها بالخصال السبع التي يتعين على صانع السلام أن يتحلى بها، سيتحدث ولد لبات عن التكبر أو الغطرسة، ملاحظا أن المتكبر هو "كالواقف على جبل يرى الناس صغارا ويرونه أصغر"، ليصير "اتصاف الوسيط بالتكبر هو أكبر خطيئة يمكن أن يرتكبها"، بسببها "تضيع رسائله ولا تصل إلى هدفها"، حيث أن "الوسيط الذي يقدم نفسه على أنه أعرف بالملف من أهل البلد، وأن بحوزته الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقاش، وأنه لا يحتاج إلى أحد ويتصرف على هواه، هو فيالواقع وسيط محكوم عليه بالفشل"، من منطلق أن "الوسيط المتعجرف هو الذي يظن أنه يمارس سلطة على الناس وعلى العملية الجارية، بينما هو في الحقيقة يعمل بالتدريج على تدمير سلكته وإفشال العملية برمتها"، فيما تبقى "الخصلة المقابلة لهذه الغطرسة هي التواضع"، الذي "يعلمنا أننا لا نعرف شيئا ذا بال. وأننا نحن أنفسنا، في التحليل النهائي، لسنا شيئا ذا أهمية".

يشدد ولد لبات على التواضع، الذي يبقى بالنسبة للوسيط "أحد مفاتيح النجاح"، إذ "يمكنه من أن يتعلم. ويتيح له الوقت للإصغاء".
وبالنسبة لولد لبات، لا مناص من مواجهة أسئلة "كيف نستمع، نتعلم، نكتشف، نفسهم، نراقب خيوط اللعبة التي تدور حولنا أو ضدنا أو معنا؟ كيف نتصرف، متى نُقْدم أو نُحْجم ونتراجع؟"، ونحن "نقارب متطلبات صائغ مجوهرات السلام والمصالحة ورأب الصدع بين المتخاصمين".

يتحدث ولد لبات عن "الجهل" كخطيئة ثانية قد يقترفها الوسيط:الجهل الذي يتجلى في "سلوك يقوم على رفض الأخذ بمتسع من الوقت للفهم، ومن ثم المبادرة إلى اتخاذ القراءات، وتقديم المقترحات، والتصريحات والإعلانات، ونشر الكتابات، في حين أننا نجهل دقائق الواقع الذي تدور بشأنه هذه التصرفات والأقوال". وبهذا "يكون الجهل صِنْواً للغطرسة ومقترنا بها؛ بينما تكون المعرفة قرينة التواضع".

كما يشدد ولد لبات على الحاجة إلى "عدم انحياز الوسيط". هذا "مطلب جوهري"، مع أنه "ليس من السهل الصمود أمام الإغراءات. فنحن هنا، على كل حال، بين البشر لا الملائكة"، قبل أن يبرز الفرق بين عدم الانحياز والحياد، إذ "بقدر ما يكون عدم الانحياز لدى الوسيط خصلة محبذة يتعين عليه أن يميز بينه وبين الحياد غير المحفز للابتكار والخلق .. فعدم الانحياز يقتضي، كما يدل عليه نقيضه، التعامل بإنصاف وعدل مع كل الأطراف وعدم محاباة أي منهم على حساب الآخر".

يبقى على الوسطاء تجنب مزيد من الأخطاء، يضيف ولد لبات، ومن ذلك "فقدان الثقة"، و"عدم التعرف على الأطراف"، و"عدم احترام الأطراف"، علاوة على "التسرع واستعجال النتائج"، حيث أن "الوساطة عملية ذات نفس طويل"، وبالتالي فـ"إذا أراد الوسيط الحصول على نتائج قبل نضج العملية، فإنه إما أن يخرج خالي الوفاض، وإما أن يقطف ثمارا فجة غير ناضجة".

حوار لا يقصي أحدا
في كلمته التقديمية للكتاب الذي جاء في 424 صفحة، يشدد رئيس مالي الاسبق كوناري على أن "مرافعات المؤلف لمناصرة الحوار الجامع لن تترك للقارئ بُدّا من التفاعل معها". فبتركيزه على إشراك الجميع لمبدأ جوهري في الخطاب العالمي لما بعد الحداثة، يضيف كوناري، "لم يكتف ولد لبات بتبوء منصب المربي الماهر على الصعيد الفكري والسياسي للقادة التقدميين للثورة السودانية، بل قدم كذلك قاعدة مذهبية صلبة لمرافعته الهادفة إلى مناصرة حوار لا يقصي أحدا".

يستدرك كوناري بالقول، إن ولد لبات يثير بذلك "إشكالية جسيمة تطرحها الديمقراطية في السياق الإفريقي، وهي ديمقراطية يتحتم عليها أن تبتكر سبلا خاصة بها"، من جهة أن المجتمعات الأفريقية "المبنية على تمفصلات عرقية، وطائفية، وقبلية، لن تتوفر على الانسجام إلا في ظل نموذج ديمقراطي ينأى عن المقولة التي مؤداها أن "من ينال الأغلبية يتولى الحكم ومن يفقدها لا يبقى له من ملجأ سوى المعارضة"".
يؤكد كوناري على "قيمة المرافعة"، التي يقدمها ولد لبات انطلاقا من تجربته الذاتية ومن سيرته كمناضل سياسي"، ولذلك "نفهم بسهولة لماذا يرى أن الديمقراطية في أفريقيا لا بد أن تكون توافقية جامعة أو لا تكون على الإطلاق".

درس الثورة السودانية
يشدد كوناري على أن "الدرس القيم الذي تقدمه الثورة السودانية لنهضة العالم العربي الإسلامي، بالنظر إلى المشهد العام، لا يقدر بثمن"، مشيرا إلى أن ولد لبات "بمساعدته السودانيين على تجنيب بلدهم الانجراف إلى النموذج المأساوي في العالم العربي الأفريقي كما صوره أحسن تصوير، يقدم إنجازا ذا فائدة جلى"، وأن "الخيار الذي يتيحه لجميع المصلحين، والديمقراطيين، والثوريين في العالمين العربي والإفريقي كليهما، يبرهن على وجاهة أكيدة"، الشيء الذي يتأكد معه الخيار الاستراتيجي للحلول التوافقية الكفيلة بفض النزاعات والأزمات، بحيث يفتضح "غرور الحلول الأحادية المنطوية حتما على عنف يمزق النسيج الوطني".

سياق الوساطة
تحت عنوان "سياق الوساطة"، يعود ولد لبات بالقارئ إلى النصف الثاني من شهر أبريل (نيسان) 2019، عشرة أيام عقب الإطاحة بالرئيس السابق البشير، حين يصل رفقة موسى فكي محمد، رئيس الوزراء الأسبق ووزير الخارجية السابق في تشاد والرئيس الحالي لمفوضية الاتحاد الأفريقي إلى العاصمة السودانية الخرطوم. يقول: "كنا نحس بتصاعد التوتر لدى كل خطوة نخطوها. كان هناك حضور غريب ضاغط لكنه غير مرئي ويشكل مصدر قلقنا الخفي. إنه المجهول الذي يساورنا ويهيمن على أفكارنا بفعل غموض الأفق، والإشفاق من عدم تحقيق النتيجة المرجوة وإخفاق المهمة، بالرغم من طبيعتنا كمنحدرين من الساحل متعودين على تجشم الصعاب وتذليل العقبات لبلوغ الأهداف المنشودة".

هواجس مقلقة
يضعنا الكاتب في خضم الهواجس المقلقة التي انتابته بشأن الدور الذي يتهيأ للاضطلاع به، والأسئلة التي فرضت نفسها على درب مهمة تحقيق المصلحة بين السودانيين: "كيف السبيل لسلوك متاهاتها ملبدة السماء؟ ماهي العراقيل التي تحفها؟ ماهي الأوراق اللازم تحصيلها ولملمتها؟ ما الخطط التي ينبغي رسمها واتباعها؟ على من نعول في أعمالها؟ ممن يلزم الحذر لكي لا يخربها؟ أي نتائج يمكن موضوعيا توخيها والبحث عنها؟".

لا ينسى ولد لبات أن يرسم لنا ما يشبه "بروفايلات" لعدد من الفاعلين الذين تحضر أسماؤهم بين دفتي الكتاب، من قبيل محمد موسى فكي. أكثر من ذلك، لا ينسى أن يقترح مساحات لبعض تجاربه وخلفيته الثقافية ومعرفته بتاريخ السودان، وقربه من ثقافة وعقلية السودانيين، بل صفات التشابه – بل التطابق – المتعددة التي تجمع بين موريتانيا والسودان على مدى القرون، وذلك بشكل يعطي مبررا لقرار تكليفه بريادة جهود الاتحاد الأفريقي في السودان، بهدف تنفيذ قرار مجلس الأمن والسلم،الذي يطلب اتخاذ التدابير اللازمة للوصول إلى اتفاق بين جميع الفرقاء السياسيين والاجتماعيين لإقامة نظام انتقالي يتولى فيه المدنيون سدة الحكم.

يحدثنا الكاتب في كتابه عن تزامن تاريخ 28 أبريل (نيسان) 2019، مع وصوله إلى الخرطوم، مشددا على أنه، لمزيد من ضبابية المشهد، كانت عاصمة البلاد، "مشلولة بشكل كامل بفعل احتشاد المحتجين في قلب المدينة أمام القيادة العامة للجيوش. كان التوتر على أشده. وأي شرارة كان من شأنها أن تشعل السهل بأكمله. كان المناخ المتوتر ينذر بأقصى درجات مخاطر الانفجار. لقد بلغت القلوب الحناجر. وكان الحوار مفقودا تماما".

يتوسع ولد لبات في رسم صورة العارف بمختلف أطياف المشهد السوداني، قبل أن يشير إلى تصريحاته بعدم تعرضه لأي ضغوط غير لائقة لا من المصريين، ولا من السعوديين، ولا من الإماراتيين، ولا من خصومهم السياسيين الأتراك والقطريين، علاوة على تزايد الشكوك تجاه حياد المنظمة الأفريقية بفعل وجود شخصية نسوية سودانية ضمن مفوضية الاتحاد الأفريقي، وإشارته إلى أنه شرح للعديد من المحاورين السودانيين فرديا وجماعيا أن "الوساطة ستظل في يقظة قصوى تجاه كل تأثير من أيه جهة كانت لا يخدم النهج الذي ترسمه المحددات الموضوعية".

ثقة.. ونجاح
يختم ولد لبات محور "سياق الوساطة"، بالإشارة إلى أن السودانيين نظروا إليه في البداية بعين الريبة والحذر. لكن، "ما إن اتضحت الأفكار والسياقات والرهانات ولا سيما الصعوبات متعددة الأوجه، حتى بدأت مرحلة "إنضاج الوساطة"، التي ستتمثل في "كسب ثقة الأطراف"، وفي هذا المنحى ومع مرور الزمن، يضيف ولد لبات، ضمن محور "إنضاج الوساطة"،"اكتشف السودانيون من أنا ومن أكون حقيقة: فأنا في الواقع موريتاني في إهاب سوداني، أو لنقل: موريتاني، بالتأكيد، لكن مندمج تماما في جسم وروح سوداني. والمهم من ذلك أنهم فهموا من تلقاء أنفسهم وليس فقط من خلال أقوالي أني لا أتلقى الأوامر إلا من مصدر وحيد هو إيماني بالله أولا، ومرجعية الاتحاد الأفريقي، ومصدر فكري ومنهجي وحيد مستوحى من تجربتي مع أساطين أفارقة سبق لهم القيام بمسلسلات تسهيل ووساطة تكللت بالنجاح".