إيلاف من لندن: منذ أعلنت السعودية عن إنشاء مدينة "نيوم" أول مرة في عام 2017، أدهشت الفكرة العالم الأجمع بما تعد به هذه المدينة المستقبلية بسِمات لم يعهدها الناس. لم تتوقف السعودية، مستنيرةً ببنود "رؤية السعودية 2030"، عند حدود الفكرة المعروفة بالعمران الأفقي، ولو كانت نيوم الأفقية لا تشبه أي مدينة أخرى، إنما تجاوز طموح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كل ما هو مألوف، نحو فكرة العمران العامودي المبتكرة، والصديقة الوفية للبيئة، في مدينة "THE LINE" التي قل نظيرها. وحين أراد الحديث عن طموحه هذا، قال: "ستكون هذه المدينة الخالية من السيارات هي الأكثر ملاءمة للحياة البشرية على سطح هذه المسكونة".


الأمير محمد بن سلمان في صورة نشرتها مجلة "المجتمع البرلماني" البريطانية

ناطحتا سحاب وما بينهما

في تقرير مسهب عن المدينة السعودية المستقبلية، التي تنتصب فيها ناطحتا سحاب ترى منهما أفق الصحراء ومرامي الهضاب الرملية، وفي موازاتها هياكل وبنى مغطاة بالمرايا، أوردت مجلة "المجتمع البرلماني" البريطانية تفاصيل مثيرة لهذه المدينة التي تمثل ثورة حضارية تضع البشر في المقام الأول، وتوفر تجربة حضرية غير مسبوقة لا تضرّ بالطبيعة المحيطة بها.

فهذه المقاربة العمرانية الجديدة تعيد تعريف مفهوم التنمية الحضرية في قلب "نيوم" الكبرى التي خطط لها أن تؤدي دورًا مهمًا في سياسة التنويع الاقتصادي التي ينتهجها الأمير محمد بن سلمان لوقف الاعتماد السعودي الكامل على الصادرات النفطية، كما ترسم صورة جديدة لما يمكن أن يكون شكل المدن المستقبلية، واضعةً المملكة في مصاف الرواد في العالم، فتكون مدينة "THE LINE" المثال الذي يبنى على أسسه غد البشرية.


الصفحة الأولى في المجلة البريطانية التي نشرت التقرير المسهب حول "نيوم"

حين بدأ الكلام عن "نيوم"، كانت صفتها الأساس "وادي سيليكون إقليمي"، أي كان المراد أن تتحول مركزًا للتقانة الحيوية والرقمية، يمتد على مساحة 26500 كيلومتر مربع، "إلا أن مفهوم هذه المدينة تطور كثيرًا منذ إطلاقه في نسخته الأولى"، يقول روبرت موجيلنيكي، من معهد دول الخليج العربية بواشنطن. كيف لا، وقد غيّرت "نيوم" الآن قواعد اللعبة على كوكب الأرض بطرحها تصورًا لحياة حضرية كاملة في 34 كيلومترًا مربعًا فقط، وبوضعها حلولًا جذرية لما يصفه الأمير محمد بن سلمان بأنه "أزمات الحياة والبيئة".

فهنا، على امتداد 170 كيلومترًا، وبعرض 200 متر فقط، وعلى ارتفاع 500 متر فوق مستوى سطح البحر، لا طرق ولا سيارات ولا انبعاثات كربونية، إنما تشغيل أخضر بطاقة متجددة بنسبة 100 في المئة على مدار الساعة لمدينة كاملة، سيقطنها تسعة ملايين نسمة في عام 2045 كما توقع ولي العهد السعودي، وستحفظ 95 في المئة من طبيعة أرضها.

توازن الحياة

لا شك في أن هذا المشروع ليس عاديًا بكل المقاييس، ولهذا كانت له أصداؤه العالمية. فقد أفردت له مجلة "المجتمع البرلماني" البريطانية مكانًا واسعًا على صفحات عددها الصادر أخيرًا، فكان تقريرًا خاصًا أشرفت عليه رئيسة تحرير المجلة نفسها ريبيكا ريوفريو، لم يقل أهمية عن تقارير وموضوعات مهمة أخرى في العدد، مثل تقرير خاص فيه كل المعلومات والبيانات الخاصة بملك بريطانيا الجديد شارلز الثالث، الذي خلف الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، وتقرير آخر بعنوان "من هو ريشي سوناك؟"، وفيه كل ما تريد معرفته عن حياة رئيس الحكومة البريطانية، إضافةً إلى تقارير أخرى تتناول الحياة اليومية من جوانبها المختلفة: سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية وفلسفية. تقول ريوفريو لـ "إيلاف": "أتى قرار نشر هذا التقرير عن نيوم من شعوري أن المملكة صاغت خطة استراتيجية للمستقبل، ومن إدراكي أن على دول العالم الأخرى أن تصغي جيداً إلى ما يقوله الأمير محمد بن سلمان. هذا هو الوقت الملائم لنرى جيدًا ونفهم جيدًا ما يفعله في ما يتعلق بالابتكار والعمارة والمشاريع المستقبلية في بلاده".

مدار هذه المجلة المرموقة هو الحياة، شؤونها وشجونها، والسبيل المنطقي أن تتناول مفهومًا جديدًا للحياة يضع ولي العهد السعودي أسسه اليوم في "نيوم" الأفقية وفي "THE LINE" العامودية. تؤكد ريوفريو أن تقرير "نيوم" المنشور في مجلتها "لقي ترحيبًا واسعًا من القراء، وشهدت النسخ المطبوعة أقبالًا كبيرًا، علمًا أن الآلاف من القراء يتصفحون النسخة الإلكترونية من مجلتنا يوميًا، وهذا ساهم في نشر خبر الرؤية التي تنطلق منها نيوم".


THE LINE في نيوم مثال ستحتذي به مدن المستقبل

إن الحياة، كما يتصورها ولي العهد السعودي في هذه المدينة، قائمة على التوازن في كل شيء. فهنا، الأولوية لصحة الناس ورفاههم ومستقبل أولادهم، ولاستمتاع رب الأسرة بحياة تحسن الموازنة بين الحياة المهنية والحياة الاجتماعية، ولاستمتاع أفراد الأسرة بمناخ مثالي على مدار العام وتمتعهم بالوصول إلى جميع مرافق المدينة في خمس دقائق سيرًا لا أكثر، إضافة إلى تسخير سكة حديد عالية السرعة، تسمح بالعبور من أقصى المدينة إلى أقصاها في 20 دقيقة تمامًا.

كل هذا مغلف بتعهد بيئي أطلقته الرياض يتمثل في تحقيق صافي انبعاثات كربونية صفرية بحلول عام 2060.

يشكك دعاة حماية البيئة بإمكان التوفيق بين العمران والوفاء بهذا التعهد، إلا أن المجلة البريطانية لفتت إلى أن خبراء بيئيين أكدوا أن "نيوم" في وضع جيد بيئيًا، "إذ ستسخّر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتشغيل كل مستلزمات العيش فيها، وهناك خطط أيضًا لاستضافة أكبر مصنع هيدروجين أخضر في العالم".


الصفحة الأولى للتقرير عن "نيوم" في المجلة البريطانية

رد سعودي على عشوائية العمران
الكثافة السكانية التي يتحدث عنها ولي العهد السعودي في هذه المدينة لافتة فعليًا، "هي جزء من طفرة سكانية متوقعة على مستوى المملكة، وهي ضرورية لجعل السعودية قوة اقتصادية دولية"، كما يقول الأمير محمد بن سلمان، مضيفًا: "إن الهدف المنشود في عام 2030 هو أن يعيش 50 مليون شخص - نصفهم من السعوديين - في أرجاء المملكة، ارتفاعًا من نحو 34 مليونًا اليوم. وبحلول عام 2040، سيكون الهدف 100 مليون نسمة، توازيًا مع استحداث 380 ألف وظيفة بحلول نهاية العقد. فإذًا، لماذا نستنسخ مدنًا عادية إن كان الهدف الرئيسي من ’نيوم‘ رفع قدرة السعودية وجذب المزيد من المواطنين والمقيمين في المملكة؟".

واستمرارًا في تناول "حياة جديدة" تكتب لهذا العالم في "نيوم" و "THE LINE"، يعدّ هذا المشروع في المبدأ "ردًا سعوديًا على زحف عمراني عشوائي من خلال رصف طبقات من المنازل والمدارس والمتنزهات بعضها فوق بعض، في ما يطلق عليه تعبير Zero Gravity Urbanism، أي حياة حضرية بجاذبية صفرية.

يقول الأمير محمد بن سلمان إن أولى مراحل المشروع تنتهي في عام 2030، "وستصل كلفة إنجازها إلى نحو 319 مليار دولار، تأتي من تمويل حكومي ومن مصادر تمويل محتملة في القطاع الخاص، إلى جانب طرح عام أولي متوقع لشركة نيوم في عام 2024". وتعليقًا، قال موجيلنيكي: "ليس التمويل سوى جزء من المعادلة، فالطلب أصعب، خصوصًا عندما تطلب من الناس أن يكونوا جزءًا من تجربة جديد للحياة والعمل في المستقبل".

ثمة مطار قيد التشغيل في نيوم، وأعلنت السلطات السعودية في مايو الماضي أنها ستبدأ في استقبال رحلات منتظمة من دبي، لكن من غير الواضح ما إذا كان قد بدأ البناء الرئيسي للمدينة الضخمة نفسها. قالت نيوم الثلاثاء إنها في طور استحداث 380 ألف وظيفة بحلول نهاية العقد "مع توفير التوازن النهائي بين العمل والحياة".

أعدت "إيلاف" هذا التقرير بالتعاون مع مجلة "المجتمع البرلماني"