تتجاور تركيا وإيران جغرافياً، ولهما حدود مشتركة طويلة، في المنطقة الجبلية، التي يقطنها الأكراد. وخلال القرون الثلاثة، من الخامس عشر إلى الثامن عشر، نشبت حروب عدة بين الامبراطوريتين العثمانية والفارسية. وفي كل مرة كانت تنتصر إحداهما، كانت تسيطر بالتالي لا فقط على مرتفعات كردستان، ولكن أيضاً على كل ما يُعرف حالياً باسم العراق. ورغم استقرار الحدود السياسية بين تركيا وإيران منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، إلا أن مرتفعات كردستان ما تزال منطقة تماس، قابلة للالتهاب بين تركيا وإيران والعراق.

ولكن المقارنة والمقاربة في مؤتمر «دور الثقافات في التوتر الكوني»، الذي عُقد في اواخر حزيران (يونيو) الماضي في تركيا لم تكن حول الجغرافيا السياسية، بل حول الدور السياسي للدين في البلدين الكبيرين. وأغنى هذه المقارنة وجود أربعة مشاركين من إيران وضعف هذا العدد من البلد المضيف، تركيا.

كان هناك ما يشبه الإجماع بين المشاركين الإيرانيين على أن النظام السياسي الإسلامي الذي جاء مع الثورة التي قادها آية الله الخميني، فقد بريقه بعد السنوات العشر الأولى (1979-1989)، والتي أنهكت المجتمع الإيراني، سواء بالمحاكمات الدموية لأنصار النظام الشاهنشاهي القديم، أو بالصراع الدموي مع العراق، والذي استمر ثماني سنوات. بعد انتهاء تصفية الحسابات مع بقايا النظام البائد ومع نظام صدّام حسين، انتظر الإيرانيون أن يحقق النظام الحاكم باسم الإسلام (الشيعي الجعفري) كل أو بعض وعوده، عن استعادة «الفردوس المفقود»- أي المجتمع الإسلامي الفاضل، الذي ترفرف عليه أعلام العدالة والكرامة والعزة والرخاء. فهذا ما تبشر به كل الحركات الإسلامية المعاصرة، أي أنه بمجرد تطبيق الشريعة، ستختفي كل الأمراض الاجتماعية، من فقر وجهل ومرض وانحلال، وتستعيد الأمة صحتها وقوتها وإزدهارها ومجدها. وظل الإيرانيون ينتظرون، لكن بلا بوادر أو تباشير هذا الفردوس المنتظر. بل ان العكس هو الذي حدث. فقد تحول رجال الدين الشيعة، آيات الله والمجتهدون والأئمة، إلى طبقة حاكمة، تمارس السلطة، وتسيطر على مقدرات المجتمع الإيراني. وكما يقول المثل الشائع في عالم السياسة ان «السلطة تفسد، والسلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة»، فهذا ما حدث وما يزال يحدث في إيران، خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، أي مع مرور أو اكتمال ربع قرن منذ الثورة الإسلامية. وبدأت الطبقة الوسطى تتململ، ثم تتبرم بالنظام الحاكم باسم الإسلام. بل وبدأ رجال الشيعة ينقسمون على أنفسهم. وظهر بينهم تيار إصلاحي معتدل، يحاول أن يخفف من غلواء سلطة رجال الدين. وقاد حجة الاسلام محمد خاتمي الذي كان وزيراً للثقافة هذا التيار، والتف حوله الشباب والنساء، وأقنعوه بأن يخوض الانتخابات الرئاسية، وهو ما حدث، وتم انتخابه بغالبية كبيرة ضد منافسيه المتشددين من آيات الله. ولكن لأن المتشددين كانوا ومازالوا يسيطرون على مؤسسات الدولة الإيرانية، بما في ذلك منصب المرشد الأعلى للثورة والدولة، وهو موقع لا يتم ملؤه بالاقتراع الشعبي العام، ولكن بتوافق كبار رجال الدين الشيعة. ومثله مثل الأمين العام للحزب الحاكم في الأنظمة الشمولية، فإنه يعلو في السلطة والتأثير على منصب رئيس الجمهورية، وله سلطة الاعتراض على القوانين التي يصدرها البرلمان (مجلس الشورى) حتى لو وافق عليها واعتمدها رئيس الجمهورية.

ادرك المتشددون في إيران أن «الإصلاح» الذي نادى به خاتمي، ومعه الغالبية الشعبية والبرلمانية سيكون بداية النهاية لحكمهم وسلطتهم وسيكشف فسادهم. فاستماتوا في مقاومته وتفريع رئاسته من محتواها، حتى بعد إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية. لذلك توصل عدد متزايد من الإيرانيين إلى خلاصة مفادها أن نظام الحكم الإسلامي القائم لا أمل في إصلاحه، ولا بد من اقتلاعه، والعودة لا إلى نظام ملكي شاهنشاهي، ولكن إلى نظام جمهوري علماني مدني. ومع اليوم الأخير من «مؤتمر دور الثقافة في التوتر الكوني المعاصر»، وبعد الاستماع إلى تفاصيل التجربة التركية المعاصرة، قال أحد المشاركين الإيرانيين، وهو الدكتور محمود سريع القلم، من «مركز الدراسات الدولية» في طهران، إنه يبدو له أن إيران تزخر بنسبة «علمانيين» أكثر من نسبتهم في تركيا!

ربما كان الدكتور سريع القلم مبالغاً بعض الشيء. ولكن حقيقة الأمر هي أن هناك ما يشبه الإنقلاب بفوز حزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات البرلمانية الأخيرة تشرين الثاني (نوفمبر) 2002، وتشكيله للحكومة الحالية، برئاسة رجب أردوغان. وحينما تجولت في القلب الأسيوي ،أي أرياف الأناضول، أدركت سر وأبعاد هذا الإنقلاب الصامت على العلمانية المتطرفة، التي جاء بها مصطفى كمال أتاتورك، قبل ثمانين عاماً، حينما قام بثورته على نظام سلاطين آل عثمان، وإلغائه «الخلافة»، ولكل المظاهر الدينية الإسلامية التي كانت تتستر بها، على كل إنحلالها وعفونتها، وعلى كل هزائمها في القرن الأخير من عمرها الطويل الذي امتد لحوالي خمسة قرون.

في البداية التفت الطبقة المتوسطة التركية حول مصطفى كمال، واحتفت بانتصاراته العسكرية، ضد دول الجوار، وخاصة من اليونان والأرمن الذين استغلوا، مثل غيرهم، ضعف نظام آل عثمان في اقتطاع أجزاء من جسم تركيا نفسها. ومع طرد الغزاة من التراب الوطني التركي، واسباغ صفات البطولة على مصطفى كمال، وزملائه من شباب الضباط، تشجع الرجل وزملاؤه على إعلان ثورة شاملة على النظام السلطاني، وكل ما كان يتستر وراءه من مظاهر الخلافة لكسب الشرعية. ولم يبك كثير من الأتراك على زوال «الخلافة» بل كان الذين ذرفوا الدموع من المسلمين خارج تركيا على «الخلافة» أضعافاً مضاعفة. من ذلك أن احد اهداف حركة «الإخوان» في اسطنبول، إحياء نظام «الخلافة». واصبح هذا الهدف ضمن أجندة معظم الحركات الإسلامية التي تفرعت من الحركة الأم (الإخوان المسلمين).

ولكن كان معظم من احتفظوا بالثورة التركية والتفوا حولها هم من أبناء الطبقة الوسطى الحديثة، بما في ذلك ضباط القوات المسلحة. ومن شدة حماس هؤلاء للزعيم مصطفى كمال، أطلقوا عليه لقب «أتاتورك» ـ أي «أبو تركيا والأتراك»، تمييزاً له ولهم عن كل ما هو «عثماني»، سلطاني، في الدستور على «جمهورية» الدولة التركية، وعلى «علمانيتها»، وعدم الإشارة من قريب أو بعيد إلى «الإسلام» أو التراث الإسلامي في الدستور. وإمعاناً في القطيعة مع الماضي العثماني، تحولت تركيا والأتراك من استخدام الأبجدية العربية في كتابة لغتهم، إلى الأبجدية اللاتينية، ومن الأرقام العربية (الهندية) إلى الأرقام الإفرنجية التي هي أصلاً مأخوذة عن العرب. كذلك الغيت الاحتفالات الدينية، وتغيرت العطلة الأسبوعبة من يوم الجمعة إلى يوم الأحد. والغيت الأوقاف الإسلامية التي آلت إلى الدولة. ولم تعد هذه الأخيرة ترعى المساجد أو المؤسسات الدينية. كما اسند الدستور إلى القوات المسلحة التركية مهمة المحافظة على «الجمهورية التركية العلمانية»، وعلى الدستور «الكمالي» عموماً.

نجح هذا الاتجاه العلماني المتشدد في نصف القرن الأول بعد الثورة (2491-1974)، بفضل شخصية مصطفى كمال «الكاريزمية» (البطولية)، وبفضل ولاء القوات المسلحة التركية لايديولوجية الثورة العلمانية، وبفضل إلتفاف الطبقة الوسطى، ذات التعليم الحديث والقيم الغربية الليبرالية.

ولكن الذي لم يفطن إليه المراقبون، لا وقت مصطفى كمال ولا خلال العقود التالية لرحيله، هو أن معظم الفلاحين الأتراك في هضبة الأناضول، كانوا من أتباع الطرق الصوفية، وفي مقدمها الطريقة «النقشبندية»، و«الجيلانية» و «البكوشية». ولأن هذه الطرق لم تتورط في السياسة، ولم تكن قريبة من السلطان العثماني، فلم يهتم بها ضباط الثورة الكمالية، واعتبروها غير ذات أهمية، خصوصاً وأنها لم تعارض علناً الإجراءات العلمانية المتطرفة للكماليين، والتي كانت موجهة في الأساس ضد «الإسلام السني المؤسسي» الذي كان قريباً من سلطة الخلافة العثمانية في اسطنبول. بل ومع إضعاف الإسلام السني المؤسسي، إزدهرت الطرق الصوفية المذكورة أعلاه. فقد كان لا بد للأتراك عموماً، وفي الريف خصوصاً، من بديل وظيفي لإشباع حاجاتهم الروحية، فضلاً عن الضرورات الشعائرية المصاحبة لظواهر مثل الميلاد والختان والزواج والوفاة، وما إلى ذلك. ثم كانت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة في العقود الأربعة الأخيرة. وأتى هؤلاء إلى الأحياء الشعبية الحضرية، بتدينهم الصوفي، وأصبحوا بمرور الوقت الغالبية فيها. وتعلم الجيل الثاني من أبنائهم تعليماً حديثاً مختلطاً ـ مدنياً ودينياً. وتشكلت منهم قيادات وكوادر أحزاب تركية ذات توجهات إسلامية ـ مثل «الفضيلة» الذي قاده نجم الدين أربكان، ثم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم الذي يقوده رجب أردوغان، رئيس الوزراء.

وكانت خلاصة المقارنة بين ما آلت إليه الأوضاع في إيران وتركيا، هي تأكيد أحد قوانين الحركة في «الميكانيكا»، كما في «الاجتماع»، والسياسة. وهو أنه «لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في القوة، ومضاد له في الاتجاه». لقد كان غلو وتزمت الثورة الخمينية في إيران، هو ما أدى إلى إنصراف معظم الإيرانيين عنها، وقوفهم مع «العلمانية»، وإبعاد الدين ورجاله عن السياسة. وكان غلو وتطرف الثورة الكمالية العلمانية في تركيا ومناهضتها للدين هو ما أدى بمعظم الأتراك إلى العودة إلى الإسلام، ولو من خلال تنوعاته الصوفية. ولعل في هذا الدرس التاريخي حكمة لذوي الألباب في مصر المحروسة، والتي نعود إليها في مقارنة مع تركيا في مقال قادم.