قِيلَ في تفسير أسباب انعطافة الأخضر الابراهيمي الحادة من مقترحه القاضي بتشكيل حكومة عراقية كفؤة ومحايدة الى الموافقة على تعيين بريمر لحكومة من الطيْف السياسي المتعاون مع أمريكا، بأن الابراهيمي وُعِدَ من الإدارة الأمريكية بدعم ترشحه الى منصب الأمين العام للأمم المتحدة. ويقال اليوم في تفسير انعطافة تيري رود لارسن: من تقريره الشهير عن مجزرة مخيم جنين في عام 2002 الى تقريره الشهري الأخير الذي حمل فيه المسؤولية عن عدم ضبط الوضع الأمني في المناطق الفلسطينية وعن عرقلة تطبيق “خارطة الطريق” لياسر عرفات، بأنه وُعِدَ أيضاً من الإدارة الأمريكية بدعم ترشحه الى المنصب نفسه.
لا نعرف إن كان هذا صحيحاً في الحالين أو في واحدة منهما. علمُ ذلك عند الله وعند مَن هُمْ على صلة بالأمر ان كان. لكن انقلاب تيري رود لارسن المفاجئ لا يحتاج الى نباهة غير عادية، كي يدرك المرء الصلة بينه وبين السياسة الأمريكية “الاسرائيلية” تجاه قضية فلسطين. فمن تقريره تنبعث روائح الموقف الأمريكي “الاسرائيلي” الكريهة وقد أطل (الموقف) من وثائق الأمم المتحدة هذه المَرّة.
ومع ان رود لارسن كان نزيهاً في وصف ما جرى في مذابح جنين مدفوعاً بضمير المسؤولية المهنية والأخلاقية، مما جر عليه غضباً ومقاطعة من قبل “اسرائيل” وتحفظاً من الادارة الأمريكية، فإن سابقة لنا معه في موضوع الجنوب اللبناني تكفي للاستفهام في أمر المدى الذي تصل اليه نزاهته. فالرجل ذهب بعيداً في تبني الرواية “الاسرائيلية” عن تنفيذ الدولة العبرية للقرار 425؛ ولم يكلف نفسه عناء الاهتمام بمطالب لبنان حيال “حدود” الخط الأزرق حتى لا نذكر موقفه من حقوق لبنان في مزارع شبعا المحتلة. والى ذلك كله حَمَلَ معه الى بيروت مطلباً “إسرائيلياً” بوجوب نشر الجيش اللبناني في مناطق الجنوب التي جَلا عنها الاحتلال: وهو التسمية المهذبة لإخراج المقاومة اللبنانية من تلك المناطق. ولذلك، إذا كان انقلابه مفاجئاً، فهو قطعاً ليس مستغرباً. وقد يزيد الأمور وضوحاً أكثر ان صحت المعلومات عن صفقة ما بين الادارة الأمريكية وبينه.
وأوْضَحُ علامات الشبهة في التقرير المنحاز ل “اسرائيل”، الذي قدمه تيري رود لارسن، انه قُدم في ظرف سياسي وُضِعَت فيه السياسة الصهيونية ووراءها السياسة الأمريكية أمام امتحان قانوني وسياسي وأخلاقي كبير بمناسبة إصدار محكمة العدل الدولية فتواها القضائية بعدم شرعية إقامة جدار الفصل العنصري في فلسطين، وإتيان الفتوى على تحديد الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية كأراض محتلة لا تُسْتثنى منها القدس.
ولقد كان يمكن للفلسطينيين والعرب وللعالم ان يجدوا في قرار المحكمة أمثل مناسبة سياسية لمحاكمة السياسة “الاسرائيلية” على الصعيد الدولي ولإحراج السياسة الأمريكية في أكثر أوقاتها حَرَجاً: انتخابات الرئاسة القادمة. وقد بَدَأ التحضير فعلاً لِنَقْل الموضوع مجددا الى الأمم المتحدة وهي كانت طرحت امر التحكيم في مسألة الجدار على محكمة لاهاي للبحث في الاسقاطات القانونية والسياسية المترتبة عن قرار المحكمة، وطرح المسألة على مجلس الأمن بعد تعبئة كبيرة في الجمعية العامة وفي الساحة الدولية. لكن تقرير لارسن أتى ليزوّر الأمور ويخلط الأوراق ويضع العراقيل أمام أي سعي جاد في محاكمة “اسرائيل” دولياً، وتفعيل قرار المحكمة، وإنصاف الشعب الفلسطيني في حقوقه!
أتى التقرير يمحو أو يحاول أن يَمْحُو ما حرّره قضاة المحكمة الدولية من أحكام في حق الانتهاك “الاسرائيلي” للقانون الدولي. وأتى يبرّئ ساحة الدولة الصهيونية بإعادة إلقاء الضوء على أمنها الذي لا يريد ياسر عرفات وسلطته ان يحميه (وهو ذريعة “اسرائيل” لإقامة جدار الفصل العنصري). وأتى يطعن في شرعية رئيس السلطة الذي يعرف رود لارسن وأمريكا و”اسرائيل” انه مَن سيقود الحملة لاستثمار قرار المحكمة. ثم أتى يمارس تمييعاً مفضوحاً للمسألة بصرف أنظار العالم عن قرار قضاة لاهاي الى “عدم أهلية” عرفات لإدارة أمور المناطق الفلسطينية!
ما الذي تريده “اسرائيل” والإدارة الأمريكية، بعد صفعة قرار المحكمة الدولية، أكثر من هذه “الشهادة” من مبعوث الأمم المتحدة الى المنطقة، التي بَصَمَ عليها كعادته كوفي أنان؟! من المشروع ان يحتج الفلسطينيون والعرب على التقرير وعلى تأييد أنان له، ولكن لا ينبغي الخلط هنا: فكوفي أنان وإن كان موظفاً لدى الخارجية الأمريكية ليس الأمم المتحدة، وشجْبُ موقفه، وهو ضروري، لا ينبغي ان يتحول إلى شجب للأمم المتحدة.