يا لها من لحظة. عندما طرق المحضر باب بيت نجيب محفوظ. لا تحتاج إلي اسم شارع ولا عنوان بيت ولا رقم شقة. فالعناوين بالعلامات تعرف. وبيت نجيب محفوظ الذي عرفه الشاب الذي طعنه بالسكين منذ أحد عشر عاماً بسهولة. يمكنك أن تتعرف إليه حتي لو لم تسأل. ثلاث علامات تقودك إليه. العلامة الأولي مستشفي الشرطة الكائن في مواجهة البيت. وهو معروف ليس لأنه مستشفي. ولكن بسبب التحصينات الأمنية الموجودة حوله من كل جانب. وسهولة وسيولة المرور أمامه ومن حوله. العلامة الثانية كافيتريا ينعمة ليس في ذكر اسم محل لسندويتشات الفول والشاورمة أي دعاية له. لأن هذا الكلام ينشر خارج مصر. ولأن المحل لم يعد في حاجة إلي أي دعاية. والعلامة الثالثة هي الوجود الأمني المكثف حول بيت نجيب محفوظ الرجل الذي عاش للناس وبالناس ومن أجل الناس. علي مدي 94 عاماً. أمد الله في عمره.

أقول إن الوجود الأمني المكثف موجود حول بيته منذ محاولة العدوان عليه في 12 أكتوبر ،1994 وهي المحاولة التي نجا منها.

أقول يا لها من لحظة. عندما وصل المحضر من قبل محكمة القاهرة الابتدائية.

ومقرها في ميدان العباسية. ضمن مجمع المحاكم هناك. يطلب الأستاذ نجيب محفوظ عبدالعزيز إبراهيم الباشا. وهذا هو اسمه الكامل. للمثول أمام المحكمة يوم الخميس التاسع والعشرين من سبتمبر الماضي في القضية المرفوعة من دار مصر للطباعة ضد نجيب محفوظ. تطالبه بدفع تعويض مادي قدره خمسة ملايين جنيه مصري. لأنه فسخ عقده مع الدار. وهو العقد الأبدي الموقع بين الدار ونجيب محفوظ سنة ،1943 ولا ينص أي بند فيه علي مدة معينة ينتهي بعدها. وقد أخذ نجيب محفوظ طلب الحضور إلي المحكمة. وأعطاه لمحاميه. الذي هو محامي الأهرام ومحامي دار الشروق. أيضاً الدكتور أحمد السيد عوضين. وهو أديب قبل أن يكون محامياً. وله كتاب عن إبراهيم عبد القادر المازني. أي أنه من المحامين المتأدبين. وإن كان طلب الاستدعاء قد أرسل إلي المحامي فإن الموضوع قد بقي في ذهن نجيب محفوظ الذي يقول عن نفسه أنه لم يدخل محكمة في يوم من أيام عمره. ولا حتي قسم شرطة. عندما كان اسمه الربع أوالثمن. وإن كان قد دخل هذه الأماكن. ففي خياله ومن خلاله. لأن أبطال قصصه لابد من وصولهم إلي هذا المكان كجزء من سياق القصة أو الرواية. وجوها. طبعاً ظهر ضباط الشرطة وجنودها في قصصه. ولكنه مجرد ظهور. وأيضاً رجال القضاء لهم ظهورهم. ومن المؤكد أن هناك احتكاكات بينه وبينهم علي المستويين الفني والأدبي فقط.

وقصة التعاقد الأبدي التي تعود إلي أكثر من ستين عاماً مضت. تمت في زمن ''لجنة النشر للجامعيين'' التي أسسها المرحوم عبد الحميد جودة السحار. كحل لأزمة النشر عند جيلهم. وهذه اللجنة هي التي تحولت إلي دار مصر للطباعة. التي تقع في العقار رقم 3 بشارع كامل صدقي بالفجالة. وهو الشارع الذي كانت تقع فيه معظم دور النشر المصرية. من حكايات نجيب محفوظ عن علاقته بالدار التي نشرت نتاجه الأدبي كله.

أنه عندما ذهب إلي الدار حوالي أواخر خمسينيات القرن الماضي وهو يحمل علي يديه روايته بين القصرين. كانت رواية واحدة. مكتوبة علي حوالي ألف فرخ فولسكاب رآها سعيد السحار. صاح فيه: إيه الداهية دي-! أحبط نجيب محفوظ وتركها عنده لمدة سنة كاملة. كان يمكن أن تضيع الأوراق خلالها. عاد له نجيب محفوظ بعد سنة. وبناء علي طلبه حولها من رواية واحدة إلي ثلاث روايات. وأجري التقسيم حسب الأماكن التي تجري فيها الأحداث. الجزء الأول بين القصرين وفيه أحداث بين القصرين. والثاني قصر الشوق والثالث السكرية. وهذه الأماكن متجاورة في أرض الواقع فعلاً. نعود إلي الفجالة. شارع دور النشر والصحف والمجلات من قبل. الذي تحول الكثير منها الآن إما إلي محلات لبيع الأدوات الصحية بأسعار الجملة. والمكتبات التي قررت الاحتفاظ بوضعها كمكتبات. تحولت هي الأخري. ولكن إلي الكتب المدرسية المساعدة.

وطبع كراريس وكشاكيل المدارس. أي أنه لم يبق من الشارع القديم. سوي القليل من المكتبات التي يمكن أن تعد علي أصابع اليد الواحدة. ومن ضمنها مكتبة ومطبعة دار مصر.

والقصة تبدأ بتصريحات أدلي بها أمير سعيد السحار. الذي آلت إليه أمور المكتبة.

بعد وفاة والده الحاج سعيد السحار. وتوفي قبله بسنوات المرحوم عبدالحميد جودة السحار. الذي كان الواسطة والمبرر لهذا العقد القديم. أمير السحار أدلي بحديث إلي مصطفي عبد الله. المسئول عن صفحة الأدب بجريدة الأخبار اليومية. قال أمير فيه أن كتب نجيب محفوظ لم تعد تُباع. وقد أغضب هذا الحديث نجيب محفوظ بلا حدود.

وقال يومها إن كنت لم أعد مرغوباً عندهم. وأحلت إلي المعاش. بالنسبة لإقبال القراء عليهم. فلم أبق معهم.

في مايو الماضي وقع تطوران. الأول أن نجيب محفوظ أرسل خطاباً إلي مكتبة مصر.

يطلب فيه وقف نشر أعماله عندهم. وأنه يعطيهم ستة أشهر مهلة لتصريف ما عندهم من كتب. تنتهي في نوفمبر القادم. ثم تعاقد مع إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق علي نشر أعماله الروائية والقصصية. وفوراً لجأت دار مصر للطباعة. أو آل السحار إلي إغراق الأسواق بكميات هائلة. طرحت مع باعة الصحف من مؤلفات نجيب محفوظ كلها.

وتباع بأسعار تنافس أسعار مكتبة الأسرة والقراءة للجميع. المدعومة من الدولة المصرية. تنفد فور نزولها للأسواق. عن نفسي تعبت جداً في الحصول علي نسخ منها.

حتي يراها نجيب محفوظ. لأنهم لم يرسلوا له ولا ورقة منها. ولولا سفري إلي الإسكندرية. ما وجدتها. وعلي سبيل المثال فإن ثمن ثلاثية بين القصرين الشهيرة يبدو هكذا: بين القصرين حوالي 500 صفحة ستة جنيهات. وقصر الشوق 5,5 جنيه والسكرية 5,4 جنيه. ونفس الشئ حدث مع أعمال نجيب الأخري: ميرامار أربعة جنيهات. والقاهرة الجديدة ثلاثة جنيهات. والمرايا 5,4 جنيه. ومن أجل ألا يبدو أن نجيب محفوظ هو المقصود بالأمر. فقد صدرت بعض أعمال قليلة جداً ليوسف السباعي ويوسف إدريس. والبيضاء ليوسف إدريس أكثر من ثلاثمائة صفحة بأربعة جنيهات ونصف.

هذا علاوة علي أن كتاب الجيب يكاد أن يكون نادراً في مصر. وأيضاً فإن الكتاب الشعبي له نفس الندرة. وهذا الإجراء الذي يسمي في الأسواق بحرق البضاعة وهو ما يتم في شارع عبد العزيز بالعتبة. بالحصول علي بضاعة رخيصة وبيعها أكثر رخصاً من أجل حرق نفس البضاعة عند بائع آخر. هذا الإجراء من قبل دار مصر للطباعة. دفع إبراهيم المعلم إلي التوجه إلي النيابة من خلال محاميه طبعاً. وعمل محضراً لدار مصر للطباعة. لأن طباعة أعمال الجيب الشعبية. تم بعد وصول الخطاب الموجه من نجيب محفوظ إلي الناشر القديم من أجل وقف طبع أعماله. أي أن إغراق الأسواق بهذه الصورة. عمل يضر كثيراً بدار الشروق وإبراهيم المعلم ونجيب محفوظ. الذي لم يستأذنه الناشر قبل الإقدام علي هذه الخطوة.

علي أن هناك ترسيات قديمة. أوصلت الأمور إلي ما وصلت إليه. قبل حصول محفوظ علي نوبل. شكا من أن هناك بعض العبارات يجري تبديلها في رواياته دون الرجوع إليه.

وإن كان لم يشأ يومها أن يحول الأمر إلي قضية رأي عام واكتفي بالقول لنا. ثم فوجيء بصدور مجموعتين من القصص القصيرة له عن دار مصر دون علمه. وكأنه ليس صاحبها. مع أن اسمه مدون عليهما. المجموعة الأولي كانت فتوة العطوف. والثانية القرار الأخير. وكانت هناك أكثر من مخالفة. الأولي أنهم عهدوا إلي كاتب روائي هو محمد جبريل بكتابة مقدمة لنجيب محفوظ. أمير السحار بعد الأزمة قال أن جبريل هو الذي أتي لهم بالمجموعتين ومعهما المقدمة. وجبريل قال أنه استأذن نجيب محفوظ قبل كتابة المقدمة. ونجيب محفوظ نفي بشكل قاطع أن يكون جبريل قد استأذنه. وأن آخر مرة رآه فيها كانت منذ سنوات طويلة. لكن الأخطر من مقدمة جبريل أن هذه القصص لها قصة. جمع نجيب محفوظ قصصه القصيرة في ثلاثينيات القرن الماضي. وأعطاها لعبد الحميد جودة السحار. لكي يختار من بينها ما يمكن أن يصلح للنشر في كتاب كمجموعة قصصية أولي. وقد اختار السحار ما صدر بعد ذلك تحت مسمي همس الجنون. واستبعد عددا من القصص التي رأي السحار وقتها أنها غير صالحة للنشر في مجموعة قصصية. رغم أنها نشرت متفرقة في الصحف والمجلات. وظلت هذه القصص مركونة عند آل السحار. كل هذه السنوات. من أوائل أربعينيات القرن الماضي حتي أواخر تسعينيات نفس القرن. لم تنشر سوي بعد حصول نجيب محفوظ. علي نوبل والرجل يتساءل: إن كان السحار نفسه قد استبعدها من البداية فهل يجوز نشرها في النهاية-! وبدون إذنه وبمقدمة. وكل هذا وهو آخر من يعلم. وإن كان محفوظ يعتبر أن هذا كله من التفاصيل. التي لا تقدم ولا تؤخر. والجوهر الأساسي هو تصريح أمير السحار أن كتب نجيب محفوظ لم تعد تباع. وهو بذلك لم ينفصل عنهم. بقدر ما أعفاهم من العبء المتمثل في نشرهم لكتب لا يشتريها أحد. سألت نجيب محفوظ عن محاميه. قال لي أنه الدكتور أحمد السيد عوضين. محامي الأهرام ومحامي دار الشروق. وهي الطرف الجوهري في القضية. قلت له هل من المفيد أن يذهب عدد من المثقفين إلي المحكمة للتضامن معك-. قال لي: اسألوا المحامي. والمحامي قال أن هذا قد لا يفيد ثم أن القاضي يمكن أن يرفض هذا. لأن من له الحق في التدخل في القضية لابد وأن يكون طرفاً أصيلاً. أو صاحب مصلحة مباشرة. وليست مصلحة ضمنية أو معنوية. وقال لي المحامي ان الجهة التي من المفيد تدخلها معه هي اتحاد الكتاب باعتباره الجهة المنوط بها الدفاع عن الكتاب.

عقدت الجلسة في المحكمة ظهر الخميس 29/5/2005 وحضر عن نجيب محفوظ الدكتور أحمد السيد عوضين وحسام لطفي. وحضر عن آل السحار محام. وهو الذي طلب التأجيل من أول لحظة. حتي يتقدم بمذكرة يوضح فيها مطالبه والسند القانوني الذي استند إليه.

مطالبه تتلخص في مطالبة محفوظ بتعويض قدره خمسة ملايين جنيه. ومحامي نجيب محفوظ طالب المحكمة بأن تطلب من محامي الخصم إحضار أصل العقد المبرم سنة 1943 بين نجيب محفوظ ودار مصر للطباعة. لأن الصورة الضوئية. المقدمة مع عريضة الدعوي. لا ترقي لمستوي الوثيقة التي تقدم للمحكمة. قال لي عوضين. ان العقد به صفة العوار حيث انه لم ينص علي مدة معينة يسري خلالها. وإجراءات تجديده بعد انتهاء هذه المدة. مما يجعله عقد إذعان. أيضاً فإن عدم النص علي مدة معينة في العقد يعطي أي طرف الحق في فسخ العقد. في الوقت الذي يراه مناسباً. ونجيب محفوظ لجأ إلي الإجراء القانوني عندما أرسل للناشر خطاباً موصي عليه. يطلب فسخ العقد الموقع بينهما. بل ويعطيه مهلة ستة أشهر لتصريف مالديه. وكان رد الناشر غريباً.

ألا وهو إغراق الأسواق بكمية هائلة من الكتب. وسيل من التصريحات الصحفية التي تعد من قبيل التشهير. مثل قوله أن المعلم دفع لنجيب محفوظ ثلث مليون جنيه مصري قابلة للزيادة. وهذه الجملة الأخيرة عن قابلية الزيادة تعد تشهيراً. وطبعاً هدف السحار هو تحويل القضية إلي قضية رأي عام بالدرجة الأولي. ومحاولة الحصول علي تأييد الرأي العام الذيلابد وأن يتعاطف مع محفوظ. لأنه أي خلاف بين مؤلف وناشر لابد من التعاطف مع المؤلف حتي لو لم يكن نجيب محفوظ. لقد أجلت القضية إلي 3 نوفمبر القادم. قال لي أحمد عوضين. أنه ستكون هناك هيئة محكمة جديدة لأن العام القضائي يبدأ في الأول من أكتوبر بتشكيلات قضائية جديدة تماماً.

المثير للأسي في هذه القصة أن نجيب كان يعتبر نفسه سعيد الحظ مع ناشره أو بناشره. لأنه كان يضمن أن من يذهب إلي دار مصر للطباعة ولو مرة واحدة يمكنه الحصول علي أعماله الأدبية كلها. كان هذا الوضع يحقق له حالة من الاستقرار الحقيقي. بدلاً من بعثرة أعماله لدي أكثر من ناشر. هذا في حين أن ورثة الناشر يرون أنهم ماداموا يدفعون لمحفوظ النسبة المقررة عن طبعاته. ليس من حقه أن يعدل أو يبدل في العقد. فما بالك بإلغاء هذا العقد. إنها العلاقة المعقدة- منذ الأزل- بين المؤلف والناشر. التي لم تستقم أبداً. ويتصور كل طرف أنه علي حق.

حتي لو كان أحد هذين الطرفين هو نجيب محفوظ ذات نفسه. وما أدراك ما محفوظ.

أعتقد أنه يشكل العمود الفقري الكبير الذي قامت عليه دار مصر للطباعة منذ أربعينيات القرن الماضي. وحتي الآن. ولولا كتبه ما قامت قائمة لدار مصر للطباعة. يبدو أن المصريين يعرفون فقط كيف يتفقون. ولا يعرفون كيف ينهون هذا الاتفاق- دون أن يتحول الأمر إلي معركة. ومحاكم.

لقد كان نجيب محفوظ حريصاً علي علاقته بهذه الدار. وقاوم كل محاولات فسخ العقد معها. خاصة بعد حصوله علي نوبل. وكان يعلن تمسكه بهم. وفاء للتاريخ القديم. ولكن يبدو أنه حدث داخل الدار نفسها ما يمكن أن يسمي بصراع الأجيال وانتقال السلطة إلي جيل جديد. وكان تمسك محفوظ بهم مستمراً رغم عدم تطوير كتبه. ولا إعادة النظر في أغلفتها القديمة. التي لم يدخل عليها أي تطوير منذ أربعينيات القرن الماضي.


كاتب وروائي مصري