الأربعاء:28. 12. 2005

فنجان قهوة
أبو خلدون


من بين الأفلام التي لا تزال عالقة في ذاكرتي فيلم أنتج في بداية السبعينات عندما كانت الحملة على شركات السجائر في أوجها، وكانت معاهد الابحاث تتسابق لنشر الدراسات التي تربط بين التدخين والسرطان وأمراض الرئة والقلب والشرايين. والفيلم بعنوان The Cold Turkey أو ldquo;الديك الرومي الباردrdquo;، ويبدو أنه موحى به من جانب شركات التبغ، أو أنها هي التي مولت إنتاجه سراً، فهو يروى قصة مدينة في ولاية كاليفورنيا قرر سكانها الامتناع عن التدخين لكي يفوزوا بجائزة مقدارها 25 مليون دولار. وفي البداية التزم كل سكان المدينة بالقرار، سرا وعلانية، ووضعوا أنفسهم رقباء على أنفسهم لتطبيقه، ولكنهم لاحظوا بعد فترة أن حياتهم لم تعد كما كانت في الماضي، فقد سادت العصبية في التعامل وأصبحت الأجواء مشحونة بالتوتر، ولذلك قرروا التضحية بالجائزة وملايينها والعودة إلى التدخين لكي تعود حياتهم هادئة كما كانت.

ويقول الفيلم إن كل وسائل الإقناع والترهيب لم تفلح في دفع سكان تلك المدينة إلى ترك التدخين: لا الغرامات التي فرضت على المدخنين، ولا تحذيرات الأطباء، ولا العيادات النفسية وعيادات مكافحة التدخين التي افتتحت في كل حارة وشارع لمساعدة السكان على ترك هذه العادة، وانتصرت السيجارة في النهاية، كما انتصرت على ذلك القرار الذي أصدره أحد الحكام قبل ما يقرب من قرن من الزمن بقطع شفاه كل من يضبط وهو يدخن.

وقبل مدة لاحظ المسؤولون في فيجي انتشار التدخين على نطاق واسع في إحدى جزرهم، فاستعانوا بمنظمة الصحة العالمية التي أرسلت إليهم جيوشا من الخبراء في مكافحة التدخين، وطوال السنوات الماضية حاول هؤلاء بكل وسيلة ممكنة إقناع السكان بترك التدخين من دون جدوى، ولذلك قرر المسؤولون الفيجيون حل القضية على طريقتهم الخاصة، فاستدعى حاكم الجزيرة بعض الكهنة وطلب منهم إصدار فتوى بتحريم التدخين، وبالفعل نظم هؤلاء مهرجانات دينية وثنية قدموا فيها للسكان مشروباً وقالوا لهم إنه مشروب مقدس، وكل من يشربه ويدخن بعد ذلك ستحل عليه لعنة الأرواح.

وشرب سكان المدينة المشروب، وبعد 21 شهراً كانت الجزيرة خالية من التدخين باستثناء ثلاثة فقط عادوا إلى الكهنة وقالوا لهم: ldquo;إننا نجد صعوبة في ترك التدخين، وإذا تركناه فإن حياتنا لن تعود أبدا كما كانت، وستسيطر الهواجس النفسية عليناrdquo;، فأذن لهم الكهنة بالاستمرار في التدخين، وتشاء الصدف أن يصاب أحد هؤلاء بنزيف في الدماغ بعد فترة وجيزة من حصوله على الإذن بالتدخين، ويصاب الثاني بانتفاخ شديد في الأمعاء، ويتعرض الثالث لعضة كلب مسعور. وفي مجتمع وثني يؤمن بالأشباح والأرواح مثل المجتمع الفيجي انتشر الخبر بين الناس ولم يجد هؤلاء تفسيراً له سوى القول إن الأرواح انتقمت من الذين تمردوا عليها واستمروا في التدخين، وبذلك خلت تلك الجزيرة من السيجارة نهائياً وأصبحت أول مكان في العالم خال من التدخين.

هل نقول إن الأساليب الغربية هي السبب في كل ما تعاني منه الإنسانية من كوارث وويلات؟ ربما، فجيوش الخبراء والمختصين في الولايات المتحدة لم تتمكن من إقناع حتى الشباب الأمريكي بالإقلاع عن التدخين، بل إن معدل المدخنين بين المراهقين يرتفع سنة بعد أخرى، وبعضهم قفز من السيجارة إلى الحشيش والماريجوانا والأفيون والكوكائين.

ومن فيجي يأتي المثال العبرة، لنا ولغيرنا، بأن سلطة الوازع الديني، حتى في المجتمعات الوثنية أقوى بكثير من أي قانون.

[email protected]