الحياة: الثلاثاء: 21 ـ 06 ـ 2005

أخطأ العماد ميشال عون، وآخرون غيره، في التقاط المعنى السياسي الأبرز للأشهر اللبنانية الأخيرة. وما أخطأوه ذاك الانحياز الواسع الذي سجّلته البيئة المسلمة اللبنانية لقضية الاستقلال الثاني، والذي لولاه لما تحقق أصلاً انجاز الجلاء العسكري السوري.

في تحول كهذا يكمن الحساب الوطني، حتى لو اصطبغ بطائفة من الطوائف كانت مأساتها المباشرة السبب المباشر للتغيير. وهو ما فات العماد ففاته، بالتالي، أن المسيحيين سبق لهم أن كوفئوا، خلال 1934ـ1975، على انحيازهم لقضية الاستقلال الأول، وكان يومها عن فرنسا.

وهذا تحديداً ما كان ينبغي السهر عليه ورعايته، بدل استفزازه واستخراج الطائفي الضامر فيه ضموره في الطوائف جميعاً. يزيد في الإلحاح على الغرض هذا إنجاز أهداف عدّة يطرحها جدول الأعمال الداهم، من بتّ مسائل تشكيل الحكومة ووضع رئاسة الجمهورية، وخصوصاً حسم مسألة سلاح «حزب الله» بطريقة أو أخرى، الى ملاقاة الدعم الاقليمي والدولي للبنان في منتصف الطريق، والتناغم والتكامل معه. وهذا فضلاً عن المهمة الأبعد، والأصعب دائماً، في تأسيس وطنية لبنانية التمعت في 14 آذار (مارس) قبل أن تخبو.

وغني عن القول إنها مهام لا يقوى عليها المسيحيون وحدهم، وهم الحَمَلة التقليديون للنظرية اللبنانية، تماماً كما لم ينجحوا وحدهم في إحداث الجلاء السوري، ولا نجح المسلمون وحدهم من قبل في إنجاز الجلاء الفرنسي. لا بل المسيحيون الأضعف في المهمات هذه تبعاً للحساسيات التي قد يثيرونها في المنطقة بينما تتغير صورة لبنان وأدوار طوائفه في نظر العالم الغربي.

هكذا بدت العونية كأنها تصدم الوحدة بالانفصال وتصادم التفاؤل بتحريك الخوف والقلق الشعبويين. فحين تحالفت مع مَن تحالفت معهم، كميشال المرّ وسليمان فرنجيّة والقوميين السوريين، بدت تتمة شرعية لتيار يضرب جذوره في بعض سياسات المسيحيين اللبنانيين. والتيار هذا يمكن استخلاص ملامح له لم تبارح هذا الطرف فيه أو ذاك. فهو يقفز، بعصبيّة حادة، من موقف إقليمي الى آخر، ومن تشدد علماني الى تشدد طائفي، وغالباً ما يضيع في تحديد أولويات المرحلة التي يواجهها، فيستعجل التغيير الغامض أحياناً، ويخلطه في أحيان أخرى بنبرة انقلابية، عسكرية أو ميليشياوية. وفي الميراث هذا يندرج تحول المرّ من رعاية بشير الجميّل الى رعاية المشروع السوري، وتحول القوميين السوريين من عهدة كميل شمعون في الخمسينات الى عهدة غازي كنعان، والمقايضة التي أسستها الزعامة الزغرتاوية بين عروبة سورية وأخرى فلسطينيّة، بعد الأسبقية في تأسيس ميليشيا «المردة».

وهذا لا يلغي الضرورة الملحّة والحاسمة بأن تحاول المعارضة، وقد غدت تحظى باكثرية المجلس، إنقاذ ما يمكن انقاذه من براثن الطائفيات المتفجرّة، والتي انجرّت هي نفسها الى تفجير بعضها. فالتعاطي مع الحساسية المسيحية في خوض معركة رئاسة الجمهورية، أو غيرها من المواجهات المقبلة، لا يرقى الى أهميته إلا التعاطي المسيحي مع المسائل تلك. والمقصود، هنا، قدرة المسيحيين على إقامة المسافة اللازمة بينهم وبين مؤسسات ومناصب يشغلها مسيحيون.

وتبعاً للمعادلة هذه، لا بدّ أن يكون الاعتماد أساسياً على الميراث المسيحي الآخر الذي يملك أيضاً جذوره في التاريخ اللبناني الحديث: يندرج في الخانة هذه رموز التقليد السياسي الذي سيفتقر البرلمان المقبل الى بعض أكفأهم، كالنائب السابق نسيب لحوّد. ويندرج، كذلك، النواب القواتيون والكتائبيون ممن صدروا، في صورة أو أخرى، عن نهج بيار الجميّل الذي كان، بشهادة التجربة الشهابية، يساوم ويسالم كلما كان الطرف الآخر، المسلم، راغباً في المساومة والمسالمة. وهي مواقع لا بد أن يعززها خروج سمير جعجع الوشيك من السجن.

فإذا قيل إن بعض هؤلاء المسيحيين وزملاءهم المسلمين كانوا شركاء في النظام السابق، وهو نقد عوني صائب، بقي القول يعوزه بعض التدقيق والتصحيح. فهؤلاء شاركوا في الشقين الاقتصادي والسياسي من النظام مراهنين، بنسب متفاوتة، وخاطئة أو ساذجة، على قدرة فائقة للاقتصادي والسياسي، وعلى ضعف فائق للأمني وامتداده السوري. أما مسيحيو الميراث الآخر فاندرجوا في الشق الأمني كذلك، ويُراد لهم اليوم أن يتحولوا ترساً له ولامتداده السوري.

وهذه فوارق ليست، في آخر المطاف، بسيطة.