(1 ـ 2)

السياسة في عالمنا المعاصر هي فن الممكن، أي فن الأخذ والعطاء، بوضوح في الغاية، وجلاء في الوسيلة، أو يفترض أن يكون هو الوضع. ولو
نظرنا إلى سياسة الرئيس جورج دبليو بوش الخارجية، لوجدنا أنه يمارس السياسة من خلال أوهام سياسية مغلفة بهواجس نافخة للذات، ويعتقد أنها غايات سياسية، ولا يعلم أنها أوهام سياسية، وبوسائل تتخذ من فرض الغاية وسيلة، بينما يمكن تحقيق ذات الهدف بوسائل مختلفة.

لب الممارسة السياسية هو الانتقاء من بين البدائل والخيارات بما هو الأنسب لتحقيق الهدف بأقل التكاليف وأيسر السبل الممكنة، ولكن في حالة الرئيس بوش وإدارته تحولت الوسيلة إلى هدف، وانقلب الهدف في النهاية إلى الوسيلة ذاتها.فالرئيس بوش وإدارته أبعد ما يكون عن مثل هذا الوصف لفن التعامل السياسي، وبالتالي فإن فشله في تقديري سيكون تحصيل حاصل في النهاية. فالرئيس الأميركي ينطلق من وهم «نهاية التاريخ وخاتم البشر» في العلاقة مع كل ما هو غير أميركي.

ذاك الوهم الذي نظَر له من أخذتهم النشوة الآنية بسقوط المعسكر الاشتراكي، فجعلوا من المؤقت دائماً، ومن المتغير ثابتاً، ومن الخيار حتماً، واكتشفوا بعد حين أنهم من الواهمين، ولكن أهل السياسة في واشنطن بقوا في أوهامهم يهيمون. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشكل خاص، أصبحت السياسة الخارجية الأميركية قائمة على نوع من السياسة فحواها «استفزاز» الجميع، بغطرسة مفرطة حتى بالنسبة للحلفاء في أوروبا الغربية، ناهيك عن الخصوم السابقين في أوروبا الشرقية، والحلفاء الفعليين والمحتملين في الشرقين الأقصى والأدنى.

فكما يبدو، فإن الجيل الجديد من محترفي السياسة في أميركا، وجورج بوش الابن مثال لهم، ينطلقون من وهم كبير مفاده أن أميركا هي العالم، وأن العالم هو أميركا، وبالتالي فإن ما هو صالح لأميركا، لا بد أن يكون صالحاً لبقية العالم، بمثل ما أن ما هو صالح لجنرال موتورز صالح لأميركا. صحيح أن أميركا هي الأكثر تفوقاً في العالم اليوم تقنياً وعلمياً واقتصادياً، وهو تفوق يتعامل معه الجميع على أنه واقع فرض نفسه، وحقيقة من حقائق تاريخ العالم في هذه اللحظة من عمره، ولكن أن يترجم هذا التفوق غير السياسي إلى سيادة سياسية مفروضة ومباشرة، هنا يكمن الخطأ وقصور النظر في ممارسة اللعبة ال��ياسية الدولية.

لا شك أن أميركا عملاق سياسي، نتيجة عملقتها في الأمور الأخرى، ولكن شتان بين ممارسة هذه العملقة بشكل غير محسوس، وبين ممارستها وفق آليات الضغط والإكراه المباشرين. فمثل هذا الأمر، أي الفرض المباشر للسيادة، يستثير كوامن النفس البشرية لدى بقية العالم، من حيث رفض القسر والإجبار، على اعتبار أن ذلك نوع من الوصاية التي تأباها النفس، وتمجها الذات. فحتى لو كان ما تفعله أميركا أو غيرها، هو الصلاح كل الصلاح للعالم، وحتى لو كان من هو مُمارس عليه هذا الأمر، يعلم أن فيه الصلاح كل الصلاح، فإن القسر والإكراه يجعلاه مرفوضاً.

فن القيادة، في الداخل والخارج على السواء، هو أن تجعل المُقاد يعتقد أنه فعل هذا الأمر أو ذاك الشيء بملء إرادته، وليس بأمر أو قسر، رغم أنه يعلم في دخيلة نفسه أنه يفعل ما أُريد له أن يفعل.في أعقاب ما حدث في نيويورك وواشنطن، كان على الإدارة الأميركية أن تعي أنها في النهاية جزء من العالم مهما كانت عظمتها، وليست بمعزل عن مشاكله كما كانت تحاول أن توهم نفسها.

ولكن المشكلة أن الإدارة الأميركية لم تتعامل مع هذا الحدث الرهيب ونتائجه وفق وعي جديد قائم على إدراك الحقيقة السابقة، أو وفق حكمة سياسية تليق بمن يدير شؤون القوة الأولى في عالم اليوم، بقدر ما تعاملت معه على أنه امتهان للكرامة الأميركية، وجرح للصورة النموذجية العالمية المتعالية التي وضعت الولايات المتحدة نفسها فيها، أو أوهمت نفسها بهذه الصورة. فأن تقوم الولايات المتحدة بالهجوم على طالبان ومواقع الإرهاب في أفغانستان، بعد ما جرى في نيويورك وواشنطن ونيروبي ودار السلام وعدن، فإن ذلك هدف مشروع، ولها الحق في أن تفعل ذلك.

ولكن أن تتخذ من هذه الأحداث ذريعة للهجوم على من تشاء ووقت تشاء في هذا العالم، فأعتقد أن ذلك قصور في النظر، ولا يشكل ذلك ممارسة سياسية حكيمة، وفق المعنى السابق للسياسة، بقدر ما يشكل نوعاً من غطرسة لا مبرر لها، ونوعاً من فرض وصاية على عالم يُعامل وكأنه جماعة من أطفال قُصر، أو نساء لا قيمة لهن في بلد من بلاد الشرق الحديث أو الغرب القديم. فالحكيم هو من يعرف متى يستخدم العصا، ومتى تكفيه الإشارة، وأي إفراط أو تفريط في هذا أو ذاك، تكون نتائجه وخيمة على النفس والآخرين.

وهذا هو بالضبط ما فعلته أميركا في سابق سياستها الخارجية، وما يلوح في الأفق من أنها ستفعله رغم كارثة سبتمبر، ولذلك يتزايد كره أميركا في هذا العالم. فمحاربة الإرهاب واجبة في كل أرجاء العالم، ولكن ما هكذا يا سعد تورد الإبل. الهدف مشروع، والوسائل عديدة، ولكن التركيز على وسيلة واحدة بعينها يعني أن تلك الوسيلة قد تحولت إلى غاية بحد ذاتها، وضاع الهدف الأصلي والمفترض لكل ما يجري. إنه ذات الوهم تقريباً الذي تشبعت به ألمانيا النازية، حين اعتقدت أو توهمت بأن «ألمانيا فوق الجميع»، فعاداها الجميع في النهاية.

أو لنقل أنه ذات الوهم الذي سيطر على إمبراطوريات التاريخ الكبرى، حين وصلت إلى القمة واعتقدت أن التاريخ قد توقف في النهاية عند عتباتها المقدسة، فاعتقد الإغريقي أو الروماني أن كل من عداه هو بالضرورة بربري متوحش، واعتقد العربي أن كل من عداه هو بالضرورة من الأعاجم (من العجمة)، واعتقد الأوروبي أن كل من عداه لا بد أن يكون متوحشاً وثنياً كافراً، حتى لو كان من الموحدين.

الوهم الذي تشبعت به أميركا وقيادتها من الجيل الجديد بعد سقوط إمبراطورية السوفييت، هو أن أميركا أضحت «فوق الجميع»، وأن العالم قد أصبح أميركياً، فحيثما تولوا وجوهكم فثم وجه أميركا: هكذا حكم التاريخ وقضى، رفعت الأقلام وجفت الصحف.اعتقاد الكمال هو الفخ الخفي الذي ينصبه التاريخ للدول والمجتمعات التي تعتقد أنها قد وصلت إلى القمة، ولم يعد بالامكان بالتالي أفضل مما كان.

وبكلمات أقل غموضاً وتجريداً، فإن المؤرخ الأميركي «بول كينيدي»، يرى أن الوصول إلى القمة هو بداية انحدار القوى الكبرى في التاريخ. فللحفاظ على قوتها، تقوم هذه القوى بتشتيت وإنهاك قواها الاقتصادية والعسكرية، وتنهار شيئاً فشيئاً دون أن تشعر. وهم القوة، وغرور السلطة هما اللذان يجعلان هذه القوى تنجرف إلى فخ التاريخ دون أن تدري.

والولايات المتحدة اليوم منجذبة إلى توسيع رقعة عملياتها العسكرية، وقد قسمت العالم إلى قسمين: من لم يكن معي فهو ضدي، وهو ذات المنطق الذي قسم فيه بن لادن وطالبان ومريدوهم العالم إلى فسطاط إيمان، وفسطاط كفر ونفاق، وهو ذات المنطق الذي قاد قوى وحركات أخرى في التاريخ إلى حتفها في النهاية.

كاتب سعودي