رحل الملك فهد بن عبدالعزيز عاهل السعودية بعد‏23‏ عاما قضاها في الحكم ولعب خلالها دورا مؤثرا في المنطقة والعالم المعاصر‏,‏ واحتل مكانة تاريخية في منطقة الخليج والعالم العربي‏.‏

والحقيقة أن الملك فهد قدم إسهامات كبيرة في مجالات مختلفة‏,‏ نذكر منها موقفه الحازم في عام‏1990,‏ حين اتخذ قرارا تاريخيا‏,‏ حفظ به النظام الإقليمي في المنطقة العربية من الانهيار‏,‏ عندما غزا صدام حسين الكويت‏,‏ وهدد السعودية ودول الخليج الأخري‏,‏ حيث أظهر الملك فهد تصميما علي مواجهة ما جري بكل قوة‏,‏ ويعتبر هذا الموقف من أخطر المواقف السياسية التي اتخذها حفاظا علي بلاده والمنطقة‏,‏ فلقد رفض الاحتلال العراقي للكويت وصمم علي مقاومته دون تهاون‏,‏ وتعاون مع المجتمع الدولي في قيادة معركة سوف يسجلها تاريخ المنطقة باعتبارها نقطة فاصلة بين الاستمرار والانهيار‏.‏

أيضا لعب الملك فهد دورا مهما في تأسيس النظام العربي الراهن‏,‏ وأسهم في قيام مجلس التعاون الخليجي عام‏1981,‏ عندما أدرك خطورة نتائج الحرب العراقية ـ الإيرانية علي المنطقة‏,‏ كما أدي أدوارا بارزة عملت علي لم الشمل العربي‏,‏ وشارك بقوة في معالجة معظم القضايا الجوهرية‏,‏ ومن أهمها نجاحه في وقف الحرب الأهلية الطويلة في لبنان‏,‏ فقد تم برعايته توقيع اتفاق الطائف عام‏1989,‏ كما سيذكر له العالم الإسلامي إقدامه علي أكبر توسعة للحرمين الشريفين‏.‏

أما علي الصعيد الداخلي في السعودية فلقد قاد عملية تحديث وتطوير شاملة وعمل علي ربطها بالنظام العالمي‏,‏ سياسيا واقتصاديا‏,‏ وسوف يسجل له التاريخ السعودي أنه علي مدي عقدين من الزمن قام بأكبر عملية تنموية‏,‏ نقل بها بلاده إلي العصر الحديث‏,‏ فلقد دشن نهضة صناعية وعمرانية ضخمة‏,‏ تحولت بها السعودية إلي منطقة جذب للاستثمارات العالمية‏,‏ وارتبطت تلك النهضة بالحفاظ علي الثروة البترولية السعودية التي جعلتها أهم منتج في السوق العالمية الآن‏.‏

ولم يتوقف الملك فهد عند حدود الاقتصاد والتنمية وحدهما‏,‏ بل قام بعدة إصلاحات سياسية علي صعيد الحكم‏,‏ فانشأ مجلس الشوري عام‏1993,‏ ووضع من خلاله نظاما أساسيا لبناء الدولة‏,‏ قال عنه المراقبون إنه نظام قادر علي التكيف مع المتغيرات العالمية فلقد حمي المملكة من هزات وأحداث كبري‏,‏ مرت بها في الآونة الأخيرة‏.‏

ولعل أهم ما يجب أن نسجله هنا هو علاقة الوفاء النادرة بين الملك الراحل وشقيقه الملك الجديد عبدالله بن عبد العزيز‏,‏ فمنذ أن أصيب الملك الراحل بجلطة في المخ في نوفمبر عام‏1995,‏ و الأمير عبدالله الذي كان وليا للعهد يعمل معه جنبا إلي جنب‏,‏ بسياسة حكيمة‏,‏ خاصة في مواجهة ضغوط عالمية نجمت بعد أحداث‏11‏ سبتمبر عام‏2001‏ في الولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ وما تلاها من عمليات إرهابية أثرت في السعودية والخليج‏,‏ وقاد الحرب ضد الإرهاب ببراعة‏,‏ وحافظ في الوقت نفسه علي استقرار السعودية ودورها علي الصعيدين الإقليمي والعالمي‏,‏ فقدم مبادرات عربية سياسية ساعدت علي حفظ النظام العربي‏,‏ وأهمها مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام‏2002‏ التي حازت قبول الدول العربية كلها‏,‏ وعملت علي تقوية ظهر الفلسطينيين في التفاوض‏.‏

أما حالة الوفاء النادرة بين فهد وعبدالله فهي تعكس روح الشخصية العربية‏,‏ وتظهر عمق العلاقة الأسرية التي قد لايفهمها الغرب‏,‏ لأنها حالة عربية خاصة من الوفاء‏,‏ تعكس دور المؤسسة واستقرار الحكم في دولة عربية مهمة في المنطقة والعالم بإمكاناتها النفطية الهائلة‏.‏

ولاشك في أن رحيل الملك فهد يعد خسارة إنسانية كبيرة‏,‏ وأننا نشارك إخوتنا في السعودية الأحزان في مصابهم الجلل‏,‏ ونحن واثقون باستمرار قوتهم وتقدمهم ومكانتهم الكبيرة في المنطقة‏.‏

ولعلنا نتذكر مواقف الملك فهد الكثيرة مع مصر‏,‏ وعلاقته الوثيقة بالرئيس حسني مبارك والشعب المصري‏,‏ فلقد كان من أوائل القادة العرب الذين أعادوا العلاقات الدبلوماسية مع مصر عام‏1989,‏ وحتي قبل ذلك الوقت حافظ علي قوة ومتانة العلاقات معها‏,‏ اقتصاديا وسياسيا‏,‏ فبالرغم من ظروف القطيعة‏,‏ فإنه فتح أبواب بلاده للعمال المصريين في مختلف المهن والتخصصات‏,‏ وعمل علي تطوير العلاقات السياسية معها‏,‏ حتي أصبحت العلاقة بين البلدين نموذجا يحتذي به بين الأشقاء‏,‏ وأصبح الدور المصري ـ السعودي يشكل خط الدفاع الأول عن المصالح العربية والمقدسات الإسلامية‏.‏