الأربعاء: 31 . 08 . 2005
مسودة الدستور العراقي الجديد كشفت بوضوح عن هدف الحملة الأميركية على العراق، وهو إلغاء الهوية القومية للعرب وتحويلهم الى طوائف. فالعراق في نظر الدستور ليس عربياً وإنما جزء من العالم الاسلامي، وانتماء الناس فيه للدين والطائفة وليس للقومية، واللغة العربية التي جرى تنقيطها ووضع قواعدها ونحوها وصرفها في بغداد، صارت لغة من ضمن لغات وربما لهجات. والقومية في العراق لم تعد للعرب بل للأكراد. وباسم الفيديرالية والديموقراطية، تم شطب الهوية القومية لبلد الخلافة العباسية. والمفارقة المحزنة أن احتلال العراق أصبح فعلاً ماضياً في ظل هذا الدستور، ولم يعد هو المشكلة. العراق العربي المحتل جرى تغييبه من الجغرافيا. والذين يتحدثون عن بلد عربي محتل بات مطلوباً منهم اثبات ان هذا البلد موجود أصلاً، فالعراق العربي صار بلداً «متعدد القوميات والأديان والمذاهب»، وساحة مشرعة لحرب أهلية، وحروب دينية طاحنة ومريرة، ولا بد لها من حماية أميركية لضبطها.
قبل الغزو الأميركي للعراق وبعده بقليل، كان العرب يستبعدون انفصال الأكراد، باعتبار ان قيام دولة كردية في الشمال يتعارض مع المصالح التركية، وان واشنطن لن تسمح بحل على حساب شراكتها الاستراتيجية مع انقرة، وإذا بنا نجد ان أميركا أهدت العراق برمته الى الأكراد. فالعراق الجديد لا وجود فيه لقومية اخرى غير الكردية، أما العرب فهم طوائف دينية شيعة او سنّة، ولغتهم صارت وصيفة للغة الكردية، التي ستصبح بحسب الدستور الفضيحة لغة رسمية رغم أنف الأكثرية العربية، فضلاً عن هذا الدستور الخطير نقل الأكراد من موقع المظلوم الى الظالم، ويمارسون دور المتآمر، ولم يكتف الأكراد باسترداد حقوقهم التي جرى تغييبها على مدى عقود، فمارسوا ظلماً أشد، وأسهموا بفعالية بتدمير الهوية القومية للعراق، استعداداً لمعاودة رسم دوره السياسي في المنطقة.
لعبة الدستور العراقي يجب ان تواجه بكل قوة وحزم. لا بد من صدور ادانات رسمية من جميع العواصم العربية ضد هذه مؤامرة الدستور الخطيرة، لأنه يتعارض مع الموقف العربي المعلن من رفض تقسيم العراق، وبعد طرحه أصبح العرب في حل من موقفهم السابق بأن ما يجري في العراق شأن داخلي. لكن ما يجري ليس شأناً داخلياً، حتى وإن كان العراق مسرحه الراهن ومحطته الأولى، فالدستور يستهدف طمس الهوية العربية للعراق، وإذا نجحت واشنطن بتمريره فسيكون مقدمة لدساتير أخرى سيجري صوغها لدول المنطقة واحدة تلو الاخرى، وتحويلها من دول قومية الى دويلات طائفية. أما بعض المثقفين والسياسيين العرب الذي يسوغ لهذه المؤامرة بتحميل العرب السنّة المسؤولية بسبب مقاطعتهم للانتخابات، والتطبيل للنظام الفيديرالي، باعتباره نظاماً ديموقراطياً ثبت نجاحه في دول متقدمة، متجاهلاً الاحتلال، وتغليب الأقلية على الأكثرية، فعليه ان يخجل ويكف عن هذا التزييف، فتحميل السنّة ما يجري بسبب المقاطعة تبرير للصمت العربي المخجل، وكلمة حق يراد بها باطل.
لا شك في أن موقف العرب السنّة من هذا الدستور موقف شريف وتاريخي، ودعمه بات فرض عين على جميع العرب والمسلمين. لكن دعم هذا الموقف الشجاع والتاريخي للعرب السنة يجب أن لا يتوقف عند حد رفض الدستور، والمطالبة بتعديل المواد التي تخرج العراق من رباطه العربي، وتحرم السنّة من موارد العراق باسم الفيديرالية، بل لا بد للدول العربية من أن تعاود النظر في أوضاعها الداخلية، وتسعى جدياً نحو الاصلاح السياسي والديموقراطي، وتكريس مفهوم الدولة الحديثة من خلال اقامة دولة المؤسسات التي تنصف الاقليات وتساوي بين الناس في حقوق المواطنة، وبغير هذا التحرك فإن جميع البلاد العربية ستبقى ساحة محتملة لدستور مشابه.
الأكيد ان لهذا الدستور حسنة وحيدة، رغم طبيعته التدميرية التي تفرق ولا توحد، فهو سيعيد تنظيم صفوف المقاومة، وسيزيد من ضراوتها، وستفاجأ واشنطن بأن السنّة العرب المعتدلين والمؤمنين بالحل السياسي لانهاء الاحتلال سينخرطون في المقاومة، وسيتحول هذا الدستور من أداة لإلغاء السنّة العرب وشطب قوميتهم، الى وسيلة لتحريضهم وتوحيد صفوفهم لمقاومة الاحتلال، لأنه قلب الموقف من قضية احتلال الى مسألة وجود، وأمام تهديد الوجود فإن لسان حال العرب السنّة يقول: «ما دون الحلق إلا اليدين»!
التعليقات