نجحت "القمة العالمية" التي تعقد حاليا في نيويورك بمناسبة الذكرى الـ 60 لتأسيس منظمة الأمم المتحدة في توقيع معاهدة لمكافحة "الإرهاب النووي" وفشلت في مجالات أخرى تتعلق بالإصلاح ومكافحة الفقر وعدم الاتفاق على تعريف موحد لمسألة الإرهاب.
مسألة الإرهاب إذا احتلت مساحة لا بأس بها من المناقشات وحصدت الكثير من الساعات من دون التوصل إلى تعريف موحد على الموضوع. وهذا الاختلاف دفع الدول الكبرى إلى توسيع الدائرة بهدف إدخال الملفات النووية في نطاقها وجعلها على رأس الموضوعات التي يمكن التطرق إليها أو معالجتها في سياقات تخدم مصالح الدول الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة.
الاتفاق على مسألة "الإرهاب النووي" وترك الملفات الأخرى المتعلقة بالإصلاحات ومكافحة الفقر قيد البحث والمتابعة يؤكدان أمرا مهما يتعلق بتلك الهواجس التي تؤرق الدول الكبرى. فهذه الدول تضع مصالحها وهواجسها ومخاوفها "المفتعلة" على رأس الأولويات جاعلة منها المسألة الأهم التي يجب التركيز عليها في وقت يجتاح الفقر العالم بسبب سياسات الدول الكبرى.
الفقر هو الخطر الأول وبسببه تعاني الكثير من الدول حالات الفوضى والتفكك والانقسام الأهلي وبالتالي يمكن اعتباره مصدر العنف السياسي الذي يتغذى أيديولوجيا من ذاك التفاوت في النمو بين دول الشمال ودول الجنوب... مضافا إليه ذاك التمزق الاجتماعي الذي يضرب دول الجنوب ويعيد تشكيلها لتكون أكثر استعدادا لقبول شروط دول الشمال.
الأغنياء سبب بؤس الفقراء. والفقر هو الخطر الأول على أمن العالم وبسببه تنشأ الاضطرابات وتنتشر متنقلة بين دولة وأخرى عابرة الحدود والقارات نظرا إلى وجود نوع من التأزم السكاني الناجم عن اتساع الهوة بين التكاثر وازدياد الحاجات من جهة وتراجع المداخيل بسبب انتفاء عدالة التوزيع. فالفقر أساسا هو نتاج التنظيم غير العادل للإنتاج وهو صنيعة التفرقة والتمييز على مختلف أشكاله. وحتى تتم محاصرته لابد من الإصلاح. والإصلاح لا يبدأ من الدول الصغيرة إلى الدول الكبيرة وإنما ينطلق أساسا من إصلاح الدول الكبرى وتصحيح العلاقات التسلطية "القهرية" التي هي أصل بؤس العالم وشقاء شعوبه. فالإصلاح يبدأ من فوق إلى تحت، وهذا يعني في لغة "العولمة" أنه يجب أن ينطلق من قمة العالم "الدول الكبرى" إلى قاعدته الهرمية المتمثلة في الدول الصغيرة والمستضعفة.
حتى الآن لاتزال الدول الكبرى تهتم بإصلاح الدول الصغيرة تاركة "أو مغيبة" الأساس الموضوعي لانهيار اقتصادات دول العالم الثالث الفقيرة التي تزداد فقرا. وحتى الآن تركز الدول الكبرى مناقشاتها واهتماماتها على معالجة الآثار السياسية الناجمة عن اجتياح الفقر شعوب العالم ولا تبحث في المصادر الحقيقية للعنف والإرهاب والأسباب الفعلية التي تغذيه اجتماعيا وأيديولوجيا.
مسألة الفقر أساسية في سياق معالجة المخلفات السلبية التي يؤسس عناصرها الفكرية والسياسية. إلا أن اهتمامات الدول الكبرى تركز دائما على النتائج وتهمل الأسباب لأنها تدرك أن الذهاب إلى قراءة العوامل المؤسسة للعنف والإرهاب ستصيب منها مقتلا في اعتبار أنها الطرف المسئول مباشرة عن زيادة فقر العالم.
الدول الكبرى تعتبر نفسها غير مسئولة عن بؤس العالم محملة مسئوليته لأنظمة سياسية محلية وصغيرة لا قيمة لها على مستوى الاقتصاد الدولي ولا تأثير لها على الإنتاج والاستهلاك وتجارة الاستيراد والتصدير. فالدول الكبرى التي تطالب بمكافحة الإرهاب وملاحقة العنف وتغيير الأنظمة "الصديقة تقليديا لسياساتها" تدرك أن مجموع حجم اقتصادات دول العالم الثالث الفقيرة لا يساوي ربع إنتاج واستهلاك الدول الكبرى وبالتالي فإن مسئوليتها النسبية لا تتجاوز تلك القيمة بينما تتحمل هي بنسبة لا تقل عن 75 في المئة مسئولية كوارث الإنسان وفقر العالم.
الإصلاح يجب أن يبدأ من "قمة العالم" أي من رأسه. والرأس يعني الدول الكبرى التي تواصل حتى الآن تجاهل الأسباب الحقيقية والموضوعية للفقر والعنف والإرهاب رافضة تصحيح العلاقات الهرمية بين الأمم "المتحدة" في نيويورك وغير المتحدة في العالم.
نجحت الدول الكبرى في توقيع معاهدة مكافحة "الإرهاب النووي" وفشلت في الاتفاق على الإصلاحات ومحاربة الفقر. وهذا النجاح يعني المزيد من الثروة للدول الغنية بينما الفشل يعني المزيد من البؤس للدول الفقيرة.
التعليقات