توجان فيصل


في مناقشات مجلس الشعب السوري لتصريحات السيد عبد الحليم خدام، أشار أحد المتحدثين بتكرار لضرورة الاستفادة من الدرس الذي يستخلص من هذه الحادثة. ولكن المتحدث لم يتجاوز التكرار إلي إيضاح ما هو هذا الدرس المستفاد. ربما لأن الأجواء التي سادت جلسة المجلس كانت عاطفية ولا تتقبل التحليل العلمي الهاديء الذي يتجاوز رد الفعل العاطفي.. وربما ايضاً لأن غياب مثل هذا التحليل هو أحد المظاهرالمتأزمة للخلل الذي يؤشر عليه هذا الدرس. فإذا كان كافة المتحدثين من نواب الشعب لم يخرجوا علي نص خطاب عاطفي واحد هو أقرب إلي تفجر دمّل طال إغفاله فزاد قيحه، فإن أسباب الالتهاب وليس الدمل الذي تفجر، هي الأولي بأن تعالج.
ومما يوحد الشعب مع مجلسه، في هذه الحادثة علي الأقل كما بدا من أحاديث كل من التقطتهم كاميرات الفضائيات كعينات عشوائية من عامة الشعب السوري، هو الإدانة المطلقة لفعلة خدام وللأسباب التي تكمن وراءها. فالكل يجمع علي أنه أعطي لأعداء سوريا مبرراً لتجديد الحملة الجائرة عليها بعد أن آلت تلك الحملة لفشل ذريع.ويجمعون علي أن السبب ليس حرص خدام علي الحقيقة أو علي لبنان، بل طمعاً في ان تعيده الدبابات الأمريكية إلي السلطة في سوريا.. كما أتت بعلاوي (البعثي المنشق هو أيضاً) وغيره للسلطة في العراق !! وعلي عكس بقية السوريين الذي تنادي المعارضون للنظام منهم قبل مؤيديه لحماية الوطن من كارثة كتلك التي ألمت بالعراق، وجد السيد خدام في احتمال تكرار الكارثة في سوريا هذه المرة فرصة لتحقيق حلمه الشخصي.. فعزل نفسه تماماً عن كامل هذا الشعب. ولكن لماذا تلزم حالة خيانة كبري لوطن، ليستطيع الشعب الوطن فتح ملفات خيانات اخري لأمانات أخري مما تقع في دائرة مسؤولية من هم في السلطة السياسية
فكل من تحدث، من نواب وكتاب ورؤساء أحزاب إلي أبسط مواطن، كان علي اطلاع علي حقائق تكفي لتشكيل حالة يقين بأن الرجل قد مارس العسف كما الفساد لسنوات، وكلاهما متلازمان حين يكون الفساد آتياً من رجال سلطة سياسية. وإذا كان احد النواب قال انه كتب عن فساد خدام منذ عقد ونصف، فإن الشارع أكد هذا حين قال بانه هو واولاده نهبوا خيرات البلد ، مما يؤشر علي فساد تكرس بحيث اصبع مؤسسة تديرها عائلة وتتوارثها كما تدار شركة خاصة!!
فكيف لم يصل كل هذا لدوائر المحاسبة السياسية في مجلس الشعب، أوالقضائية '' بمجرد علم النائب العام بالأمر '' والأخيرة مهمة لا تحتاج لقرار من مجلس الشعب ولا لإحالة من نائب واحد او اكثر، فهي مهمة الإدعاء العام التي اشار إليها احد النواب في تعليقه علي طلب زملائه إصدار قرارمن مجلس الشعب لإحالة خدام للمحاكمة.. فما الذي منع نائباً في مجلس يصدر الآن قراراً بالإجماع علي تلك المحاكمة، من استصدار قرار مماثل من قبل ما دام الإدعاء العام لم يتحرك من تلقاء ذاته هل يلزم ان يكون الجرم خيانة عظمي او تهديداً لأمن البلد بتبرير مخططات استقواء خارجية عليه أوليست مصادرة حقوق الشعب في حرياته وأمواله خيانة مماثلة وتعرض أمن الوطن، السياسي والاقتصادي، للخطر قبل ان يتعرض أمن الشعب الذي هو صاحب ذلك الوطن الأول والأخير بحيث لا يمكن الفصل بين أمن ومصالح احدهما بزعم أمن ومصالح الآخر ولماذا لم يتحدث أحد من قبل، من المسؤولين أومن الشعب، بمثل هذه الصراحة عن تاريخ خدام وهل خدام وحده التفاحة الفاسدة في سلة الحكم، أم أن هنالك آخرين يتغطون بذات المواقف الوطنية والقومية التي سبق وأن تغطي بها مسؤولون سابقون.. إلي ان وقع بعضهم، فانتحر أو قيل انه انتحر، ودفنت معه ملفات لا نستطيع أن نجزم أن الشعب دفنها أو حتي أغلقها، بدليل أن ملف السيد خدام كان حاضراً لدي كل سوري لحظة وقوعه في إثم الخيانة، أو وقوعه خارج حلقة السلطة السياسية.
أحد اسباب التفاف الشعب السوري حول قيادته في التصدي للهجمة الغربية وبهذه الدرجة من الإجماع التي أبرزت انشقاق خدام كانشقاق عن شعب ووطن وليس عن نظام حكم، هو شخص الرئيس بشار. فبغض النظر عن مواقف السوريين السابقة، بمن فيهم معارضو حكم البعث وتوريث الحكم، فإن الرئيس الشاب لم يلزمه وقت طويل ليثبت للجميع جدارته في الحكم، وليقنع الشارع السوري بصدق توجهه للإصلاح. وحين تباطأت مسيرة الإصلاح لم تتراجع شعبية الرئيس، بل قد تكون تعززت نتيجة قناعة بأنه يواجه تكتلات شد عكسي ومافيات فساد أصبحت تشكل مراكز قوي في الدولة.
ولكن الدعم الشعبي لا يكون لشخص بل لقيادة، والقيادة عليها ان '' تقود '' التحرك في الاتجاه المطلوب لا أن تحمل إليه برافعة شعبية، وإن كانت الرافعة الشعبية هي عامل استقرار واستمرار الحالة التي يتم الانتقال إليها. لهذا فإن الشعب انقسم جراء الحملة الأخيرة علي سوريا إلي فئتين، فئة تري ان التصدي للخطر الخارجي الذي فاقمته الحملة الغربية الأخيرة المتذرعة بلبنان، يمثل اولوية للجهود ويبرربالتالي بطء الإصلاح الداخلي.. وفئة تري ان إصلاح البيت من الداخل هو اساس منعته وصموده. ونجزم ان كلا الرأيين وصلا للرئيس السوري، بحسن أو بسوء نية. ولكننا نجزم أن الرأي القائل بتأجيل الإصلاح الداخلي غلب علي دوائر الحكم ومراكز القوي، لحتمية تلاحم مصالح هؤلاء مع الوضع الذي سبق وأفرزها او حماها.
ولكن، إذا كان هنالك من مؤشر علي أي الرأيين تدعمه غالبية شعبية، فإن فورة الغضب الشعبي علي السيد خدام تشبه انفجار دمل طال إغفاله. فلا احد استنكر علي الرجل تغييره لموقعه الذي تجذر فيه لعقود فجأة وبدون مقدمات، كما يمكن ان يقال عن أية حالة مماثلة في مكان آخر غير العالم الثالث والعربي بالذات، بل الكل تحدث عن رجل لم يكن أساساً في ذلك الموقع من الوطن.. ليس بالنسبة للشعب علي الأقل.
خدام ليس فرداً منشقاً، بل حالة تكشف. وإذا كان الانشقاق عن مؤسسة الحكم هو الطاريء الجديد الذي صنع الحدث واستقطب الأضواء الخارجية، فإن حالة الانشقاق السابق عن الشعب هي التي صنعت هذا التوحد والزخم الشعبي في مواجهته. ونحن لانأسف لما حصل ولا نعتبره انتكاسة في الوضع السوري، بل نعتبره نوراً إلهياً سطع علي سوريا في وقت هي أحوج ما تكون إليه لتتبين طريقها وسط اعدائها المتربصين بها بليل. فخدام لا يملك أية فرصة لدي من وظفوه لهذا الدورمن عرب أو غربيين كونه رمزاً لكل ما يستهدفه هؤلاء، بخيره وشره.. ناهيك عن عدم امتلاكه أية فرصة حكم شعب وجد فرصته هو ليقول رأيه في خدام مرة وإلي الأبد.
الفرصة التي فتحت، وللمرة الثانية وهذه نادرة في التاريخ، هي لبشار الأسد ولكل الداعين للإصلاح السلمي ومن الداخل في سوريا.. وإلي حد بعيد، في العالم العربي. وسوريا في هذا لا تحتاج من محيطها العربي لأكثر من الدرس العراقي، وعليها ان لاتخشي المحيط الدولي إن استوعبت هذا الدرس. فهنالك مثل سوري يقول '' اللي جوزها معها بتدير الدنيا بإصبعها ''.. وأقرب ترجمته له إلي لغة السياسة هي : اللي شعبه معه بدير الدنيا باصبعه .. وهذا ما فعله كثيرون، وحديثاً جداَ كي لا نبعد الأمثلة عن الواقع الدولي الراهن، ومنهم شافيز الذي كان فاتحة خير علي امريكا اللاتينية كلها.. واملنا ان تكون سوريا فاتحة خير علينا.


كاتبه اردنية