د. سعد الدين إبراهيم
منذ ربع قرن ظهر لنا كتاب بالإنجليزية بعنوان ''New Arab Social Orderquot; ، وترجمة مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، ونشرة عام ،1980 تحت عنوان النظام الاجتماعي العربي الجديد . وكان موضوع الكتاب يدور حول تأثير الثروة النفطية، والارتفاع الفلكي في أسعار البترول أثناء وعقب حرب أكتوبر 1973 وقبيل ذلك بعام واحد (1979) كان قد ظهر لنا كتاب عن اتجاهات الرأي العام العربي نحو مسألة الوحدة ، والذي عرض نتائج أول مسح ميداني في عشرة أقطار عربية (المغرب تونس مصر السودان الأردن لبنان فلسطين اليمن الكويت قطر). وكانت إحدي الخلاصات المشتركة للكتابين هي أنه ما لم تبادر النخبات الحاكمة في البلدان العربية بصياغة آليات تعطي شعوبها فرصاً أكثر للمشاركة في السلطة والثورة، فإن هذه النخب نفسها ستتعرض لتحديات من الداخل يقودها إسلاميون احتجاجيون، ولتحديات من الخارج تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي غضون الربع قرن الذي تلي نشر الكتابين المذكورين، واللذين أعيد طبعهما في بيروت عدة مرات، وقع ما حذرنا منه. فضمن تحديات الداخل، قام احتجاجيون إسلاميون باغتيال الرئيس المصري أنور السادات ( أكتوبر 1981)، واستمروا في مواجهاتهم الدموية لنظام خلفه الرئيس حسني مبارك ولأنظمة عربية أخري في تونس والجزائر والسعودية واليمن. كما امتدت أنشطتهم الدموية إلي بلاد إسلامية أخري مثل أفغانستان وباكستان وإندونيسيا وتركيا. ثم انتقلت نفس هذه الأنشطة الدموية إلي بلدان أجنبية، أهمها الولايات المتحدة، التي ادعي الإسلاميون الاحتجاجيون العرب، أنها تدعم أنظمة الطغيان في بلدانهم، دار السلام ، بل وتلوث ترابها بوجود قواعدها العسكرية وتستغل مواردها من خلال شركاتها المتعددة الجنسيات. وكانت أهم هذه الأنشطة الدموية العنيفة المبكرة في الولايات المتحدة هي محاولة نسف مركز التجارة العالمي بنيويورك عام ،1993 وأوقع بعض الضحايا وبعض الضرر فعلاً. ثم تكررت نفس المحاولة في 11 سبتمبر ،2001 وبإتقان ونجاح غير مسبوقين. حيث قام تسعة عشر احتجاجياً إسلامياً بعملية انتحارية، باختطاف عدد من طائرات الركاب الأمريكية، اصطدمت ببرجي نفس مركز التجارة العالمي، فدمرتهما تماماً، وأودت بحياة ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص من ثلاثين جنسية، ولكن معظمهم أمريكيون كانوا موجودين في المبني العملاق صباح ذلك اليوم. هذا فضلاً عن طائرتين أخريين، ضمن نفس العملية الانتحارية، قصدتا مبني وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) فدمرت جزءاً منه، والبيت الأبيض، حيث الرئيس الأمريكي، ولكنها سقطت وانفجرت قبل أن تصل إلي هدفها.
وقد هزت الواقعة الأخيرة أمريكا والعالم. وقيل فيما قيل أن تلك الواقعة ذلك اليوم (11/9/2001) أنها حدث فاصل في تاريخ أمريكا والإسلام والعالم. فقد انبرت أمريكا منذ ذلك اليوم لمحاربة ما سمته بالإرهاب في كل مكان بالعالم. وبدأت تلك الحرب بتدمير مقر التنظيم الذي خطط وجنّد وأمر بتنفيذ ذلك العمل الانتحاري الرهيب، وهو تنظيم القاعدة الذي كان يقوده المنشق الإسلامي السعودي أسامه بن لادن، ونائبه المصري أيمن الظواهري، ويتخذ من أفغانستان مقراً ومستقراً، في حماية نظام إسلامي متشدد، عرف باسم طالبان، يقوده إسلامي مثلهما عرف باسم الملا عمر. والتفت معظم دول العالم، ممثلة بمجلس الأمن، حول أمريكا، التي كانت في تلك اللحظة جريحة مهانة، رغم قوتها العسكرية والاقتصادية الهائلة. ونجحت أمريكا، وقوات رمزية من بعض حلفائها، في غزو أفغانستان وإسقاط نظام طالبان، وقتل معظم أعضاء تنظيم القاعدة في غضون أسابيع، ولكن بن لادن والظواهري والملا عمر، فروا من العاصمة الأفغانية كابول، إلي كهوف ومغارات مرتفعات طورابورا، شرق أفغانستان. بل واستمروا في تخطيط وتنفيذ عمليات مشابهة وإن لم تكن علي نفس النطاق المدوي لتلك التي وقعت في نيويورك. من ذلك نسف محطة قطارات مدريد في باريس ،2004 وبعض قطارات مترو الأنفاق في لندن في يوليو 2005 كما شهدت مدن الدار البيضاء، واستانبول، ومنتجع بالي الإندونيسي، وطابا وشرم الشيخ في مصر، تفجيرات مماثلة. وحتي إن لم يكن تنظيم القاعدة ضالعاً في كل هذه التفجيرات، مباشرة فهو بالقطع الملهم والنموذج لمن قاموا بها.
ولكن الأخطر في رد الفعل الأمريكي علي أحداث سبتمبر هو أن رئيس الولايات المتحدة جورج بوش وإدارته من المحافظين الجدد حصلوا علي تفويض مفتوح من الكونجرس، رصدت له عشرات المليارات من الدولارات لشن الحرب علي الإرهاب في العالم. وقد استغل المحافظون الجدد من صقور إدارة الرئيس بوش هذا التفويض، الذي صدر في لحظة غضب قومي عارم، لتنفيذ مخططات جيواستراتيجية وأيديولوجية، أخري ليس لها علاقة مباشرة بأحداث سبتمبر، بل ويرجح أنها سابقة عليها. ومن ذلك غزو العراق، وإسقاط نظام صدام حسين. وهو ما حدث فعلاً في شهري مارس وأبريل ،2003 تحت ذريعتي دعم صدام للإرهاب وحيازته لأسلحة دمار شامل، وكلاهما يمثل تهديداً للولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها. ومثلما حدث في أفغانستان سقط نظام صدام حسين، ولكن ظلت المواجهات قائمة مع القوات الأمريكية المحتلة وحلفائها، بعد ثلاث سنوات من غزو العراق، علي نحو يعرفه كل المتابعين لتطورات الأحداث.
وهكذا ثبت صحة ما كنا قد توقعناه قبل ربع قرن من تصاعد للمواجهات الداخلية بين الأنظمة الحاكمة العربية والاحتجاجيين الإسلاميين من ناحية، وتصاعد المواجهات بين تلك الأنظمة والقوي الخارجية، بقيادة الولايات المتحدة من ناحية أخري. ولكن ما لم نتنبأ به قبل ربع قرن فهو تفاعلات وتعقيدات هذه المواجهات، التي أصبحت في الواقع مثلثة. فهناك الطغاة الذين يحكمون بالحديد والنار، والأحكام العرفية، وقوانين الطواريء، ويزجون بالآلاف في المعتقلات والسجون. وهؤلاء الطغاة خلقوا حالة من الرعب بين معظم أبناء شعوبهم. وهم الذين دمروا منظمات المجتمع المدني من روابط ونقابات وجمعيات أهلية، أو حاصروها وقلصوا دورها، حتي كاد يكون معدوماً. وكانت منظمات المجتمع المدني هذه هي التي تحمي المواطنين عادة من تعسف أجهزة الدولة، وكانت هي المعبرة عن احتياجاته ومظالمه. ولذلك فبتدميرها، أصبح معظم المواطنين بلا دروع (معنوية) تحميهم من تعسف وسطوة أجهزة الدولة، وبلا قنوات يعبّرون من خلالها عن المشاعر والمواجع والاحتياجات.
ولم يفلت من هذه المصادرة لتنظيمات المجتمع المدني سوي الذين تحصنوا بالدين، بل وتطرف بعضهم به، وتزمت في تفسيراته، حتي أصبحوا غلاة . واعتصم معظم هؤلاء الغلاة بالمسجد، كدار عبادة، وللقاء بالإخوة في الدين، وفي التزمت والغلو. وامتد غلو هذا البعض من أمور الدين إلي أمور الدنيا الاجتماعي منها والثقافي والسياسي. وأصبحوا يتهمون من لا يري رأيهم أو ينهج منهجهم بالكفر أو الفسق أو الفجور . أي أن الغلاة في تضييقهم علي غيرهم من أبناء مجتمعهم أصبحوا نسخة معكوسة من ''الطغاة''. كل فريق يحاول السيطرة الكاملة علي شئون الناس، مجتمعاً ودولة. وكثيراً ما اصطدم الغلاة، والطغاة، ودخلوا في مواجهات دموية مسلحة في مصر والسعودية وتونس وسوريا والجزائر واليمن وأفغانستان، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وكان أبناء هذه البلدان من غير الطغاة وغير الغلاة، هم الذين يدفعون الثمن، دون أن يُحسم الصراع بين الفريقين.
ولكن حين قرر الغلاة أنهم لن يغلبوا ''الفرقة الطاغية الباغية''، علي أرض الوطن، ما دامت تتلقي دعماً من كفار الخارج في الغرب، فلا بد من استهداف هذا الأخير في عقر داره. وكان ما كان من تفجيرات، طالت مؤسساتهم ورعاياهم من سائحين ودبلوماسيين وأصحاب أعمال في إندونيسيا وتركيا والمغرب ومصر والأردن علي نحو ما ذكرنا أعلاه. وكانت هذه الجماعات المتطرفة. أحد المبررات التي جلبت الغزاة إلي بلداننا العربية الإسلامية، بدعوي محاربة الإرهاب أو الأنظمة التي تأويه وترعاه. وهكذا، دخلت بلادنا العربية (والإسلامية) القرن الحادي والعشرين، وهي تصطلي بنيران هذه المواجهات الدموية المثلثة بين الطغاة و الغلاة و الغزاة .
وأسقط في يد الأغلبيات المسالمة من أبناء بلداننا لسنوات طويلة، فهم لا يملكون من الأمر كثيراً في هذه المواجهات المثلثة، غير الشكوي لله أو للمنظات الدولية والرأي العام العالمي، أو يندبون حظوظهم العاثرة، باكين أو صامتين. وهكذا أصبحنا بصدد رباعية سريالية غريبة في المشهد العربي الراهن بين: الطغاة والغلاة والغزاة والشكاة. ولأن الشكاة هم الأغلبية الساحقة، فكان لا بد أن تخرج من صفوفهم أصوات تبحث عن خلاص، رافقته ثلاثية الصراع الدموي، من ناحية، ورافضة الاستمرار في دور ''الشكاة'' من ناحية أخري. وهؤلاء هم الذين تحدوا طغاة منظمة التحرير وغلاة حماس، والغزاة الصهاينة، وذهبوا للتصويت في الانتخابات الفلسطينية في أوائل يناير 2005 وأمثالهم في العراق فعلوا نفس الشيء في أواخر نفس الشهر من نفس السنة في تحد لفلول الصداميين الطغاة، وطلائع الزرقاويين الغلاة، وفي رسالة رفض للأمريكيين الغزاة. وأمثالهم في مصر هم الذين خرجوا في مظاهرات حركة كفاية ، أوائل نفس العام، لرفض الطغيان المباركي من ناحية، ورفض التطرف المسلح من ناحية ثانية، والتدخل الأجنبي من ناحية ثالثة. وأمثال أولئك وهؤلاء هم الذين انتفضوا في لبنان، عقب اغتيال رئيس وزرائهم السابق رفيق الحريري. لقد اعتصمت الشبيبة اللبنانية في ميادين بيروت لأيام، وأسابيع احتجاجاً ضد البعثيين السوريين (الطغاة)، وفي استقلالية تامة عن الغلاة (من حزب الله)، ودرءاً لتدخل فرنسي - أمريكي (الغزاة). وتزامن هذا وذاك مع إصرار من قلة قليلة، ولكنها عنيدة، في السعودية من المطالبين بحقوقهم الإنسانية وحرياتهم الأساسية للمشاركة في السلطة، والمحاسبة في الثروة، حتي لو كان ثمن هذه المطالبة هو دخول السجون، وقطع الأرزاق بل وقطع الأعناق، كعقاب لمن يخالف ولي الأمر !. كما أن رياح التغيير هذه في النصف الأول من عام ،2005 وجدت تجاوباً في الكويت، بإذعان الطغاة والغلاة معاً، وللتسليم لنصف المجتمع من النساء الكويتيات بحقوقهن السياسية، التي يستحقونها عن جدارة، وبعد طول نكران، رغم مواقفهن البطولية أثناء غزو صدام حسين للكويت (1990/1991).
باختصار، خلال عام ،2005 تكونت في رحم رباعية، الطغاة الغلاة الغزاة الشكاة، أجنة ديمقراطية في عدد من البلدان العربية المركزية (مصر فلسطين لبنان العراق السعودية الكويت). وكان العام الذي سبقه (2004) قد شهد ظاهرة مشابهة في البلدان العربية علي أطراف الوطن الكبير، قادها ملوك شبان، في المغرب، والأردن، وقطر، والبحرين، وكلها في اتجاه التحول إلي ملكيات دستورية ، جنينية أيضاً. أي أن العامين الأخيرين كانا مرحلة تكوين الأجنة. فهل سيكون عام 2006 عام مخاض وولادة لديمقراطيات عربية، أم عام إجهاض وقتل لهذه الأجنة
كاتب مصري
التعليقات