من نتائج التثاقف الطويل الذي نتائجه لا تُحصى، بين المجتمع الصناعي الغربي ومجتمعات المشرق، مفهوم اليمين واليسار، المتداول على نطاق واسع في النقاشات السياسية والفكرية السائدة، والمحدِّد نظرة الناس وتصنيفهم لذاتهم ولبعضهم بعضاً منذ أجيال، واليوم أيضاً، على أساس أن هذا يمين وذاك يسار... ومن المفيد التذكير بأصل هذا المفهوم، الآتي من ثورة 1789 الفرنسية الكبرى، حين انقسم نواب «الجمعية الوطنية» إلى فئتين داخل القاعة: أنصار الملكية والتمسّك بالنظام القديم الذين جلسوا جهة اليمين، والثوريون وأنصار الجمهورية جهة اليسار.

وشأنه شأن جميع المفاهيم الآتية إلينا من عملية التثاقف الوحيدة الجانب (من هناك إلى هنا، على الدوام)، ينطوي مفهوم اليمين واليسار على قدر كبير من الالتباس والغموض يسهِم في تعقيد الرؤية والخطاب وتشويههما داخل مجتمعاتنا، العاصفة فيها كل الرياح. وتظهر هذه البلبلة الفكرية والشعورية بأبلغ أشكالها في الواقع اللبناني. فلما كان مفتاح فهم التاريخ اللبناني، منذ نشوء الكيان عام 1861 حتى اليوم، هو التصادم الدائم بين المشروع اللبناني التائق إلى الإفلات من هيمنة المحيط نحو أفق مختلف، والمشروع الإقليمي في لبنان الهادف إلى إعادة دمجه في نظام المحيط، كان الاصطلاح على وصف المشروع اللبناني باليميني، والمشروع الإقليمي باليساري، مع ما تبع ذلك من نعت المشروع الأول بالمحافظ والانعزالي والرجعي، والمشروع الآخر بالتقدّمي والوطني.

لقد توالت أجيال على هذا التصنيف المعهود، الذي لا خروج منه ولا حياد عنه، ما حال دون تبيّن مدى خطئه، ومدى تعارضه مع الحقيقة الواقعة. وقد أسهم ذلك إسهاماً كبيراً في إنتاج بنية فكرية مستلبة ومشوهة في فهمها وتقييمها للواقع. وما زاد في هذا الغموض أن معظم المشاريع الإقليمية في لبنان فد تبنّت آيديولوجيات «اشتراكية» كرّست لها أكثر فأكثر صفتها «اليسارية التقدمية».

وإذا استعرضنا مسار التاريخ اللبناني على مدى أكثر من قرن، أقلّه من 1861 إلى 1975، حين انطلقت حروب الخراب التي لم تنطفئ نارها بعد، ماذا نجد؟

نجد أن المشروع الكياني اللبناني، الموصوف بـ«اليميني والانعزالي والرجعي»، هو الذي حقّق الإنجازات النهضوية الفريدة في المشرق، في الثقافة والإبداع والاقتصاد ونمط الحياة: إسهامه الكبير في النهضة الفكرية المشرقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، دوره الريادي في التفاعل مع الحداثة والغرب والعالم، وفي نهوض اللغة العربية وتجديدها، وفي إطلاق الأدب الحديث، وفي الريادة الجامعية، وفي نشر التعليم العام، وفي الفكر السياسي، وحركة الترجمة، وحركة الفن التشكيلي وسائر الفنون، وحركة الصحافة، وحركة الطباعة والنشر، والنهضة القضائية، وفي الريادة الصحّية والاستشفائية، وفي الازدهار الاقتصادي، وفي إرساء نمط عيش مميّز يجمع بين الحريات والانفتاح والعلم ونوعية الحياة البشرية، بات هو قِبلة الشعوب من المحيط إلى الخليج، وأضحت معه بيروت «منارة الشرق».

من الجهة الأخرى، نجد أن المشاريع الإقليمية في لبنان، الموصوفة بـ«اليسارية والتقدّمية والقومية» وأخيراً «الإسلامية الإيرانية»، لم تحقّق أي إنجاز، ولا علاقة لها بحركة التقدّم، وأن الأنظمة الإقليمية السلطوية التي رعتها والتي شكّلت مثالها الأعلى، كانت على مدى تلك المرحلة الطويلة من القرن العشرين، ولا تزال، مرتعاً للأحادية والقمع وخنق الرأي الآخر وتعقيم طاقات المجتمع الحيّة وسجنها وتهجيرها وسلب موارد البلاد وإفقارها... فأين هي «التقدّمية» في ذلك كلّه؟ وحتى الدعوة إلى مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين، لا بل خصوصاً هذه الدعوة، التي تمحورت حولها على مرّ الزمن المشاريع الإقليمية، البعثية عموماً والأسدية والناصرية والعرفاتية والماركسية والإسلامية الإيرانية، لم تُضعِف الدولة العبرية في شيء، بل أدت في نهاية المطاف إلى إخراجها من عزلتها وإيصالها إلى ذروة قوتها. فأين هي، هنا أيضاً، حركة التقدّم؟

مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الحصيلة التاريخية المأسوية، يستمر دعاة المشاريع الإقليمية في لبنان في عدّ أنفسهم يساراً يرمز إلى النهوض والتحرّر والتقدّم. ويستمر الكثيرون في وصفهم باليسار. وقد شاءت سخرية القدر أن معظم فلول المشاريع الإقليمية السابقة، البعثية والوحدوية على اختلاف صيغها وأنواعها، العلمانية والاشتراكية والقومية والماركسية، التي وصلت إلى الطريق المسدود، قد التأمت حول المشروع الإسلامي الإيراني ورؤيته الدينية المذهبية للمجتمع والعالم، في مزيج آيديولوجي وسياسي عجيب، أنَّى له الوصول إلى مكان.