عايدة الجوهري
هل يمكن متابعة محاكمة صدام حسين وأعوانه من دون قدرٍ كبيرٍ من الذهول، ومن الإثارة الناجمة عن الوضعية نفسها، كما عن استراتيجيات المحاكمين لتوليد مشاعر معينة، ومن دون الترنح بين التصديق والإنكار، كمن يشاهد فيلماً يزاوج بين الوثائقية والتخيل ويظل يجهد في التفريق بين العاملين، وكل ذلك في صورة تقوم على مفارقات تاريخية وعلى تغيير سريع في ميزان قوى نظام بني اساساً، وفقط، كي لا يهوي؟ قد يستفز المشهد كارهي اميركا المحترفين، وأصحاب نظرية الكرامة العربية، والاسلامية اذا شئتم، في مواجهة الغريم الغربي، كما قد يستفز laquo;المجروحينraquo; والناقمين على احتلال جيش غربي لأرض عربية، وتجرؤه فوق ذلك على إقامة محاكمات، ومحاكمة زعماء أشداء مكتملي الفحولة، الامر الذي يجعل بعضهم لفرط انجراحه مبتهجاً امام مغامرات ابو مصعب الزرقاوي!
بجهد، يقل او يكبر، يمكن تحييد هذه المشاعر، مضافاً اليها الشعور المشروع بالأسى المتمثل في انتظار قوة عالمية ضاربة كاسرة لإحداث تغيير، وتسبب هذه الآلية بتحويل ارض العراق ساحة تصفية حسابات اقليمية وتبليغ رسائل، عدا عن اثباتها النسبي لصحة نظرية مخاطر التغيير الفوقي، ومخاطر الاعتقاد بأن مفهوم الدولة ورديفها المواطنة قد يتشكلان خارج أذهان المواطنين وعقولهم، وقبل شفائهم النسبي من عصبياتهم وطواطمهم.
لنحيد هذه المشاعر ونرصد بعض سمات جلسات المحاكمة في 5 و6 و7 كانون الاول (ديسمبر) الماضي، لنرى فيها اشكال تجسد هذا الانقلاب وأساليب تكيف الجلاد ndash; الضحية مع وضعيته الطارئة.
صدام حسين الذي لم ينجز في حياته شيئاً اكثر من محاكمة الآخرين، المخالفين لمصلحته وسلطته، بدءاً بالحروب الضارية التي شنها ضدهم مروراً بحملات الإبادة الجماعية (الاكراد)، وصولاً الى التصفيات الممنهجة لمن يضبط من رعاياه بجرم المعارضة، يحاكم!
في قاعة المحكمة، وراء القضبان، حكام بلد عربي ارتكبوا مجازر وحكموا شعبهم بالحديد والنار واتخذوا قرارات لا تحصى بالقتل والذبح والتعذيب، بسهولة من يتخذ قراراً بالتنزه والتمويه عن النفس.
يضج المشهد بالإشارات، والتاريخ يسير بالمقلوب: من كان حاكماً بالمطلق ومُشرِعْ القوانين وسيد القرارات الوحيد، يحاكمه قاضٍ كان يمكن ان يكون في أي لحظة من ضحاياه، ويشهد ضده مواطنون لم يقووا يوماً على النظر ملياً في صورته، على الارجح. وبشهادتهم هذه لا يذكرونه بواقعه الجديد فحسب، بل بفشله في إذلالهم كفاية.
على رغم كل شيء، لم يفت المحاكمين انهم مرئيون، فتهيبوا العدسات، ما عدا صدام الذي لا يتكيف بسهولة مع المستجدات. ارتدى المحاكمون الزي الوطني العراقي، الكفية والعقال والعباءة، خلافاً لعادتهم، يحاكون بتخفيهم بالزي الوطني الشعور القومي وraquo;الكرامة العراقيةraquo;، وفي معرض الدفاع عن انفسهم يستشهدون بآيات قرآنية، ويمسك صدام بحركة استعراضية بالقرآن، مذكراً من يشاهده انه مسلم مؤمن يتعرض وبلاده لـraquo;هجمة صليبيةraquo;، وعندما يحتدم النقاش يهتف صدام بمصلحة العراق والامة. تقفز هذه الاشارات المرئية فوق اطار المحكمة المكاني لتستهدف مجموع المشاهدين المحتملين.
في قفص الاتهام، حيث فقد المتهمون أدوارهم وصفاتهم السابقة، روعيت التراتبية: طه ياسين رمضان يذكر بخشية اسم laquo;سيدي الرئيسraquo;. صدام رئيسه ولو داخل القفص. الطبائع المكتسبة تتحول طبائع اصيلة. هل هذه صفة ملازمة لسيكولوجية العبيد ولو كانوا اعواناً للسلطان؟
صدام وأعوانه يُحاسبون، والمحاسبة هي النقيض الجوهري لحكمه. وللمرة الاولى يحاكم حاكم عربي حاملاً تاريخاً طويلاً من نظام الحكم والقيم والمعرفة والوعي ربما يدين بديمومته الى ثلاثة آلاف سنة او يزيد. ينفرد مثل هذا الحاكم بخاصية اساسية في العصور كافة، وهي انه لا يخضع للمساءلة والمحاسبة. والواقع ان الطغيان في أي عصر صفة الحكومة المطلقة للعنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب، ومن هنا ينبغي ألا نندهش عندما نقرأ في كتب التراث ان الوليد بن عبدالملك استفسر ذات مرة في عجب laquo;أيمكن للخليفة ان يحاسب؟raquo; والسؤال هنا عن الحساب من الله، دع عنك ان يجرؤ البشر على ذلك. وعندما ارسل ابن المقفع كتاباً صغير الحجم عظيم القيمة الى المنصور سماه laquo;رسالة الصحابةraquo; نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه وحسن سياسة الرعية، عوقب بالقتل لأنه تجرأ على النصح والارشاد وليس الانتقاد المباشر.
الحاكم الطاغية لا يطيق الارشاد ولا النصح ولا السؤال طبعاً. وفي حالنا يحاكم، ويسأله محكوموه السابقون ايضاً، وفوق ذلك يُشاهد وكأنه يُحاكم بالوكالة من قبل ملايين. لكن حاكمنا المحاكم لا يتكيف مع الوضعية، لا لأنه يعتبر نفسه بريئاً، بل لأنه يحيا المحاكمة كفعل خيالي اسطوري ومستحيل على رغم كل ما يدور خارجها من تحولات.
وأياً كانت الملاحظات والتعليقات السلبية احياناً حولها، تظل هذه المحاكمة حدثاً عربياً تاريخياً فريداً لا يمكن تجاهل اهمية هدفه الرئيس، ولو جاء متأخراً، وهو بداية مساءلة الحاكم العصي على السؤال.
كاتبة لبنانية
التعليقات