تقف بيشة عند مفترق التاريخ والطبيعة؛ واحة خصبة في قلب الجنوب الغربي للمملكة العربية السعودية تربط جبال السروات بصحراء الربع الخالي. عُرفت قديماً باسمَي «الروشن» و»نمران» وكانت محطةً للقوافل وطريقاً تجارياً عبر العصور، بفضل وادي بيشة الغني وروافده التي جعلت من المنطقة متنزهاً زراعياً وصناعياً منذ الأزمان القديمة. هذه المكانة الجغرافية جعلت منها مركزاً إنسانياً متتابع الوجود، وحافظةً لآثار ونقوش تدل على استيطان طويل وتداخل حضارات محلية.
في الزمن الحديث، لم تفقد بيشة مكانتها؛ فنهضت عمرانياً وزراعياً، وبنى لها التطور معالم جديدة؛ من أبرزها سد الملك فهد الذي أنشئ على وادي بيشة، ويعد من أكبر السدود في المملكة ويحوّل الوادي إلى مصدر مياه وخزان استراتيجي يَحفظ محصول المنطقة ويؤمّن الاحتياجات المائية للمناطق المجاورة. هذا المزيج من تراث قديم وحراك معاصر يمنح بيشة دوراً مزدوجاً: محافظة على الهوية، ومنفتحة على تنمية مستدامة.
تشتهر بيشة بمعالم طبيعية فريدة، من جبل الصايرة البيضاء الذي يطل على مرج ووادٍ متنوع الألوان، إلى آلاف النخيل التي تكسو ضفاف الوادي وتمنح المدينة لقب «مدينة النخيل» بين الواحات السعودية. كما تضم المحافظة قرى تاريخية مثل قرية النغيلة التراثية، وأسواقاً ومزارع تمتد على طول الوادي، مما يجعلها مصدراً زراعياً مهماً ووجهة سياحية هادئة تفضّلها العوائل ومحبو الطبيعة.
بيشة مجتمع قبلي متنوع ينتمي كثيرون فيه إلى قبائل عريقة، وقد تميّز أهلها دائماً بالكرم والضيافة والسمات الأخلاقية التي تشرّف المجتمع المحلي. الكرم هنا ليس مجرد تقليد، بل قيمة يومية تُمارَس في البيوت والأسواق والمواسم؛ لذلك بقيت سمعة بيشة مترادفاً للسماحة وحسن الجوار لدى الزائر والمارّ.
من بين الأسماء الأدبية التي خرجت من بيشة يبرز الشاعر سعد بن جدلان، الذي اشتهر بشعره النبطي وأسلوبه الجزل، حتى لقب بـ»ملك الوصف». اشتُهر سعد بن جدلان في المحافل الشعرية ومهرجانات الشعر الشعبي، وهو مثال على استمرار الإبداع الثقافي في محافظة تجمع بين البساطة الريفية والعمق الشعري.
خرج من بيشة عدد من المثقفين والباحثين والتربويين الذين أسهموا في التعليم والإعلام والعمل الثقافي داخل المنطقة وخارجها، وشاركوا في تأسيس الحراك المعرفي في جنوب المملكة، سواء عبر التعليم النظامي أو عبر المبادرات الثقافية والاجتماعية. هذا الامتداد البشري المتنوع يؤكد أن بيشة لم تكن يوماً مدينة عابرة في الجغرافيا، بل حاضنة إنسانية أنتجت الشاعر، والمثقف، والمسؤول؛ وكلهم يشتركون في سمة واحدة: الانتماء لمكان علّمهم الكرم، والاعتدال، وتحمل المسؤولية.
عندما زار الرحالة والكتّاب الأجانب جنوب الحجاز وعبروا وادي بيشة، دوّنوا انطباعات تعكس خُصوبة الأرض وتميز الناس. محمد أسد (Leopold Weiss) في مذكّراته «الطريق إلى مكة» تحدث عن وادي بيشة كمنطقة زراعية ذات إمكانات كبيرة، حتى روى نقاشه مع قائدي البلاد حول الإمكانية التحويلية للوادي قائلاً تقريباً: «أنا متأكد، يا إمام، أن وادي بيشة يمكن أن يصبح مخزناً للقمح يكفي الحجاز، لو اُعتنى به علمياً»، وصف يبرهن على رغبة الرحالة الأوروبي في إدراك الإمكانات الواقعية للمنطقة.
ولم يكن ويلفريد ثيزيغر -المستكشف البريطاني المعروف بصوره وتقاريره من البادية والجبال العربية- أقل انبهاراً بكرم البدو وضيافتهم، ففي كتابه «Arabian Sands» وصف مواقف كثيرة من الكرم الذي كان يرفق الزيارة: «وَضعوا أمامي صينية عظيمة، أرزاً يحوط ذبيحةً من الخراف، ولما اعتذرت قيل لي: أنت مرحبٌ بك مئة مرة»، عبارة تلتقط روح الكرم العربي كما شاهده الرحالة الأجنبي. كما تظهر مجموعته الفوتوغرافية صوراً لبلدة قلعة بيشة وأسواقها التي سجّلها خلال تجواله في عام 1945، مما يؤكد تلاقُف الانطباع الأدبي مع الصورة الواقعية للمكان.
بيشة ليست مجرد رقعة جغرافية؛ إنها تلاقٍ بين التاريخ والطبيعة والإيثار الإنساني. هناك، تُختصر العديد من عناصر الثقافة العربية الأصيلة: أرض تمنح، وإنسان يرحب، وشعر يَحمل ذاكرة المكان. يبقى تراثها منبراً للهوية، ورحّالة العالم من الشرق والغرب يخرجون عنها وقد حُفرت فيهم صورة الضيافة والكرم التي لن تُمحى بسهولة.















التعليقات