مشاري الذايدي

يرى بعض المهتمين بتفسير استعصاء وجود ثقافة الديموقراطية لدينا، أن غياب ثقافة laquo;الفردانيةraquo; هو السبب في ذلك.

الفردانية لا تعني laquo;الانانيةraquo;، بل هي الفردانية التي تجعل قدرة الافراد على الاختلاف مكفولة، هذه الاختلافية هي التي تخترق مجالات الحياة كلها الآن، خصوصا في المجتمعات الغربية المتقدمة، حسبما يشرح حازم صاغية.

هل جماعية ثقافتنا وتذويبها للنزعات الفردانية، هي المعوق الرئيس أمام نماء فرص الافراد الطامحين في الابتكار والتغيير؟ هل هذه الجماعية الضاغطة والمطوعة هي التي تجعل افرادنا اللامعين يهربون الى الخارج، حيث المجتمع الذي يتلاءم مع هذه الفردانية ولا يجدها غريبة على بنيته الثقافية؟.

يبدو الامر كذلك، خصوصا مع تكرار مشاهد laquo;جماعيةraquo; في كل مجالات الحياة العربية، بدرجة أولى، والاسلامية بدرجة اخرى، جماعية الرفض او جماعية القبول، وتطويع الفرد الخارج، بسوط الدولة والعشيرة والطائفة والعائلة.

انظروا حولكم ترون أننا ما زلنا الى هذه اللحظة منقادين بنزعات التطويع الجماعي وقمع الخروج الفردي، الخروج المثري، لا الخروج الفردي المبعثر والمنّبت، لكنه الابتعاد من اجل الاقتراب، والوحدة من اجل الجماعة...

هذا التطويع والردع الجماعي، ليس ممارسة يختص بها انصار الثقافة المحافظة الصرحاء من المتدينين او العشائريين او الطائفيين الخلّص، بل ان الدولة العربية laquo;التقدميةraquo; تمارسها بشكل مداور، احيانا، وبشكل فج احيانا اخرى.

هي، كما يقول أهل النقد الثقافي، laquo;نسقraquo; يحكم الجميع ويحتكم إليه الجميع.

إليكم هذه الامثلة، انطلاقا من واقعة توجيه عائلة نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم الخدام، في سوريا، رسالة إلى الرئيس السوري بشار الأسد، استنكروا فيها؛ التصريحات التي أدلى بها خدام في مقابلته على قناة laquo;العربيةraquo; التي وصفها الموقعون على الرسالة بأنها laquo;مأجورةraquo;.

هناك وقائع كثيرة من وقائع البراءة ليست هذه أولها، فعشيرة رئيس الدولة العراقية السابق، والسياسي السني الشهير في العراق، غازي الياور الذي دخل ضمن الحلبة السياسية العراقية في laquo;اللحظة الامريكيةraquo; الحالية حدث له شيء من ذلك، ففي وقت سالف يصدر بيان منسوب الى عشيرته وعائلته موقع في يونيو (حزيران) 2004، يقول: laquo;نعلن للملأ براءتنا من كل من صافح العدو الأمريكي الغاشم، وعلى رأسهم الابن العاق غازي الياورraquo;.

ومثال آخر، وفي العراق ايضا، وفي وقت مقارب ايضا، في اغسطس (اب) 2004، وزير الدفاع في حكومة علاوي، حازم الشعلان، الذي ينتمي الى عشيرة الخزاعل أو laquo;خزاعةraquo; تصدر عشيرته، او من قال انه يمثلها بيانا تتبرّأ فيه منه؛ laquo;لأنّه تخلّى عن دينه وقيمه، وأصبح أداة بأيدي المحتلينraquo;.

ويعلن شيوخ العشيرة أنهم سيغسلون هذا العار وحسب ما يمليه الشرع الإسلامي، لأنه، بحسب قولهم: laquo;..تخلى عن دينهِ وقيمهِ وأصبحَ أداةً بيد المحتلينraquo;.. وشكّل شيخ العشيرة وفداً إلى مدينة النجف لإبلاغ مقتدى الصدر بذلك، كما تمّ إبلاغ بقيّة العشائر بقرار براءة العشيرة من حازم الشعلان.

وأما في الاردن، البلد المجاور للعراق، فقد أصدرت عشيرة الخلايلة، احد عشائر قبيلة بني حسن، كبرى القبائل الاردنية، بيانا تتبرأ فيه من احمد فضيل الخلايلة (ابو مصعب الزرقاوي) بعد تفجيرات الفنادق في عمان التي تبناها الزرقاوي بكل وقاحة وفخر، ثم رد على براءة العشيرة منه laquo;ربما اصبح تنظيم القاعدة بالنسبة له: عشيرة موازية!؟raquo; لتقوم قبائل بني حسن بإعلان البراءة منه في مساندة لفرعها من الخلايلة.

طبعا السؤال هنا عن توقيت البراءة التي تمت فقط بعد تفجيرات مست الاردن، وليس بسبب مجازر الزرقاوي ومذابحه شبه اليومية في العراق، هو سؤال مشروع وملح، ولكن ذلك سيقودنا الى تشريح علة اخرى من علل الموقف من القتل، لا عن طريق رفضه بشكل مبدئي ومطلق، أو رفض قتل معين والترحيب بقتل اخر، ومع ان هذا سيخرج بنا عن جادة حديثنا الآن، غير ان اغراء كلمة قالها نائب laquo;الزرقاءraquo;، موسى الخلايلة، لوكالة الأنباء الفرنسية، تعليقا على بيان العشيرة الذي جددت فيه الولاء للعرش الهاشمي، يجعلنا نورد قوله، فقد قال موسى، ردا على سؤال حول تأخر اعلان عشيرة الزرقاوي براءتها منه، بالرغم من قيامه بقتل مدنيين في العراق، قال: laquo;العراق ساحة حرب مفتوحة، فهو ليس مقياسا، انما الاردن واحة امن واستقرارraquo;!.

ما مر بنا هو امثلة على ادوات التطويع الجماعي، التي تمارس من قبل الطائفة الممتزجة بالقبيلة أحيانا، كما في مثالي: الشيعي حازم الشعلان وعشيرته المهرولة نحو مقتدى الصدر بعد معارك النجف، والسني العربي غازي الياور وعشيرته. وهناك امثلة العشيرة الموالية للحكم، والخائفة على موقعها في خارطة المجتمع والدولة، كما في مثال الزرقاوي وعشيرة الخلايلة وقبيلة بني حسن.

طبعا اعلانات البراءة وجدت وبغزارة من عوائل وعشائر وقبائل في السعودية، أثناء التهاب المواجهة بين القوات الامنية السعودية وعناصر الارهاب، او اثناء التبرؤ من بيانات laquo;معارضةraquo; لندن واذاعتها، حينما كانت تورد اسماء عوائل واشخاص باعتبارهم ضمن حركتهم، وهؤلاء الاشخاص او العوائل آخر من يعلم!

هذه البراءات، في السعودية وغيرها، الغرض منها التمايز عن موقف احد افراد المجموعة، وخلق مسافة فاصلة بين الجماعة وفردها، وهي مفيدة ضمن السياق الثقافي والاجتماعي الموجود، مفيدة إفادة laquo;عمليةraquo;. غير ان غرضنا هنا الحديث في تفسير هذه البراءة من خلال تحليل العلاقة بين الفرد والجماعة.

وهناك امثلة اخرى اكثر التباسا ولا تخلو من laquo;شبهةraquo; حديثة، مثل ممارسة سحب الجنسية، كما في نموذج الكويت والناطق باسم القاعدة سليمان بو غيث، وهي تعادل خلع القبيلة لأحد افرادها، في تاريخ القبائل العربية، حيث يحدثنا التاريخ عن ثلة من الشعراء laquo;الصعاليكraquo; الذين laquo;انشقواraquo; عن القبيلة، وحاولوا خلق مجال خاص لهم، يتحرر من سلطة القبيلة/الدولة، خصوصا في شكلها القديم السابق على قيام الدولة العربية المعاصرة، حيث كانت القبيلة بالفعل (دولة) من حيث توفير الحماية وحراسة الحدود المتحركة آنذاك، وتوفير شبكات الضمان والرعاية، من خلال اعراف التضامن في حوادث القتل والديات والمساعدة في الزواج وتسديد الديون... الخ. وهنا يصبح الخلع من القبيلة بمثابة سحب الجنسية والرعوية في فهمنا المعاصر.

إمام الصعاليك العرب، الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، قال عندما نبذته عشيرته، كاشفا عن ضرر الانخلاع من القبيلة/الدولة:

إلى أن تحامتنى العشيرة كلها

وأفردت إفراد البعير المعبد

والجميل في شرح البيت ان البعير المعبد هو المذلل المطلي بالقطران، وهو يستلذ بذلك ولا يرعوي!

الصعاليك هم خروج على المتن الجماعي، ولذلك فمن المفارقات الطريفة، كما يذكر حازم صاغية في محرره laquo;مأزق الفرد في الشرق الاوسطraquo;، هو أنه في أولى ترجمات laquo;البيان الشيوعيraquo; العربية، كان يتم ترجمة كلمة laquo;بروليتارياraquo; الى laquo;الصعاليكraquo;!

لسنا نناقش هنا الادلة القانونية والحجج الدستورية في جواز سحب او عدم سحب الجنسية من مواطن، فهذا أمر لا نلمّ به، وهو محل نقاش قانوني في أكثر من مكان في العالم. ولكننا نقارب الموضوع من زاوية دلالاته على تجلي الجماعة في ثقافتنا العربية السياسية والاجتماعية.

موضوع الفرد والجماعة، أو الفردانية والجماعية، له تجلياته الكثيرة، التي نجدها في الاحتكاكات التي لا تنفع الجماعة ولا تحرر الفرد القوي، وكأن المطلوب هو ضمان عدم وجود نسخة مختلفة، حتى في أدق التفاصيل، ودوما نجد الجماعة، إما بشكل حقيقي او حتى مزور، من خلال laquo;تبرعraquo; بعض افرادها، تبادر بإعلان البراءة من الفرد الخارج.

وأذكر في هذا الصدد، ان شخصا أعرفه، في مناسبة مثيرة، اعلن براءته وبراءة عائلته من ضابط بوليس ينتمي لنفس العائلة، لأن هذا الضابط مكلف بالقبض على شيخه الاسلامي الجماهيري، طبعا البراءة كانت من laquo;عندياتهraquo; في لحظة حماس!

ونتذكر هنا الطريقة التي قدمت بها، من قبل الاعلام الغربي، فنانة شابة تمت بصلة لأشهر إرهابي، بينما هي تعيش حالة من الانفتاح laquo;الكاملraquo; على الطريقة الاوروبية، وكأن وسائل الاعلام الغربية تريد إغاظة خصمها الارهابي، لكن المثير كان مبادرة محبي هذا الرمز الاصولي العسكري بالقول انه laquo;لا يجب تحميل جريرة هذه البنت على عاتق الشيخ، فابو لهب كان عم الرسولraquo;. وكأن هذا الإرهابي هو ممثل الخير المطلق!

النقاش كله laquo;غلطraquo;، وهو يشير الى أزمة اندغام واختلاط الفرد بالجماعة، والجماعة بالفرد، بحيث يصبحون وجوها لنص واحد ثابت خالد، فاذا كانت البيولوجيا جعلت هذه الفتاة المتحررة جدا قريبة لهذا الرجل المنغلق جدا، فما هو الغريب في الامر؟! وهل يفترض انهما يجب ان يشبها بعضهما، واصلا لماذا يصبح الامر موضع نقاش طويل وجاد في منتديات عربية؟!

لنجمع اطراف الحديث الى بعضها، ونعنقدها في عنقود واحد فنقول:

يجب تحرير الفرد من سطوة الجماعة بكل وجوهها، من اجل ان تصبح الجماعة نفسها اغنى واقوى. ويجب الا تصبح ادوات العصر: الدولة، الحزب، النقابة... مجرد تكرير لنمط ونسق الجماعة القديمة: العشيرة، الطائفة، العائلة.

اذا استطعنا أن نقبل اختلافات الافراد، كل اختلافاتهم ـ وليس بالضرورة ان نتفق معهم، او نسكت عنهم، إذا كانت اختلافاتهم جرائم بالمعنى الجنائي ـ بدون بيانات براءة او إعلانات خلع جديدة، فعندها نصبح أقرب الى المستقبل من الماضي..