توجان فيصل


سبق وأن حذرنا مجلس النواب الأردني من التبعات الأخلاقية لإقرار اتفاقية الحصانة الجنائية للأمريكان، في مقالة بعنوان أونأكل بأثداء أخواتنا ! ، عند عرض قانون الاتفاقية علي مجلس النواب الأردني والذي ردها آنذاك، ولكن مجلس الأعيان اقرها حينها ، كما هو متوقع. وبالمناسبة، مجلس الأعيان شق غير منتخب من السلطة التشريعية، ويعين بإرادة ملكية، ولهذا تسميته الدارجة هي مجلس الملك ، مقابل افتراض أن مجلس النواب هو مجلس الشعب . . ولكن الملك نفسه أقر بأن مجلس النواب الحالي ليس مجلس الشعب، لا لأنه انتخب وفق قانون مؤقت غير دستوري كما يجمع كامل الجسم القانوني الأردني، أو لما شاب انتخابه من عمليات تزوير زخرت ببيناتها وشهاداتها حتي الصحافة المحلية المعروفة حدود حريتها، ولكن إعلان الملك جاء لسبب تلا كل هذا، ألا وهو أداء المجلس الذي قال عنه الملك ان الشعب غير راض عنه .. وقد أكد المجلس هذه الحقيقة وتوجّ صدقيتها بقيامه بالاصطفاف مع الحكومة والأعيان بإقرار ذات الاتفاقية التي سبق ورفضها!!
وقد يكون من سخرية الأقدار أن صادف نشر تلك المقالة في مساحتنا الأسبوعية علي صفحات هذه الجريدة، يوم الرابع من يوليو العام الفائت. فالرابع من يوليو هو يوم الاستقلال الأمريكي. وها نحن نعود للحديث عن تلك الاتفاقية من جديد، ودون تكرار ما ذكرناه في مقالتنا السابقة. . باستثناء وقفة فرضت نفسها عن استقلال القرار الأردني وحال السيادة الأردنية، إلي جانب مستجدات اخري تبحث في المصالح الأردنية التي قال رئيس الوزراء الأردني الجديد عدنان البخيت (الاتفاقية أجندة متوارثة من ثلاث حكومات سابقة علي حكومته) انه لم يسمع كلمة واحدة عنها!!


فأهم ما ساقه عدد من النواب لتبرير عودتهم عن رفضهم السابق للاتفاقية، هو أن الكونجرس الأمريكي أصدر قراراً يربط فيه المعونات الاقتصادية الممنوحة لأية دولة بإقرارها لهذه الاتفاقية، إضافة لتلويحه بفرض عقوبات سياسية واقتصادية ودبلوماسية. .الخ، غير محددة علي الدول التي ترفض التوقيع. في مقالتنا السابقة استنكرنا إشارة بعض النواب ل قرار الكونغرس الساري المفعول ، وتساءلنا، إن كان هو القرار الساري المفعول عندنا، فأين قرار الكونغرس الأردني وكان ذلك اول تنبيه لضرورة الحفاظ علي السيادة التي تبقي للشعب ، حسب القانون الدولي، حتي لو احتلت ارضه وازيلت بالتالي كل مؤسسات الحكم والدولة فيه. . فهل يأتي مجلس يزعم انه يمثل الشعب ليقول انه سيتنازل عن تلك السيادة دون أن تكلف الدولة التي يتم التنازل لها بكلفة احتلال او مسؤوليته !! هكذا علي البارد المستريح يتسلم الكونغرس الأمريكي إعلان استسلام مجلس نوابنا لقراراته رغم أنف الشعب الأردني الرافض لهذه الاتفاقية ولكل ما تؤشر عليه !!


ولكن لنر إن كان صحيحاً ان هنالك مصالح أردنية عامة (غير المصالح الخاصة التي بينا بعضها في مقالتنا السابقة ) مهددة بحيث يستلزم الأمر هذا التسليم للسيادة!! قرار الكونغرس الأمريكي حدد ستة اشهر لتوقيع الاتفاقية وقبل البدء بتوقيع العقوبات. وبعد رفض الاتفاقية الصيف الماضي من قبل مجلس النواب، تم تمديد المهلة لستة اشهر اخري. ولولا تعهد ممن لا يملكون لمن لايستحقون لما حدد التمديد بفترة معينة، ولترك مفتوحاً. . بل ولتوقف الحديث عنه بأن تمتنع صحافتهم عنه خدمة للمصلحة القومية الأمريكية ، وتمنع صحافتنا عنه. فتنفيذ تهديد الكونغرس يضر بالمصالح الأمريكية.
فقطع العلاقات الدبلوماسية معنا، وهي تحوي رزمة كبيرة من العلاقات، أو حتي خفضها، كارثي بالنسبة لأمريكا لقائمة طويلة من الأسباب تتعلق بموقعنا من العراق وفلسطين. ولعله من الطريف هنا ان نذكر بان قطع العلاقات الدبلوماسية هذا مطلب الزرقاوي الذي يتصدر قائمة مطالبه من الحكومة الأردنية ، منها أيضاً وقف الخدمات اللوجستية للقوات الأمريكية، مقابل وقف عملياته داخل الأردن. وقد اتهمت صحافتنا الرسمية الزرقاوي آنذاك بأنه يهدف من هذه المطالب تحسين صورته عند الشعب الأردني بعد تفجيرات فنادق عمان. وبغض النظر عن أهداف الزرقاوي، يبقي مدلول الحديث واحداً، وهو معرفة واعتراف الطرفين بأن الشعب الأردني لن يضيق بهذا الخفض للعلاقات، بل إنه ضاق بتضخم التواجد الأمريكي عندنا علي كافة الصعد. وبالمقابل فإن خفض أية علاقات ثنائية مما يقال انه لمنفعتنا نحن فقط في علاقة دولة صغيرة بدولة كبري، يلزمنا عملياً بالبحث عن تلك المنفعة أوالمصلحة من مصادر أخري بديلة. ودخول بدلاء أو حتي شركاء لأمريكا هو ما تفعل أمريكا المستحيل لمنع اقتراب شبحه.. والآن بالذات بعد ان اصبحنا المطار والفندق والمنتجع الذي تدير منه امور المنطقة، يستقرون عندنا ويطيرون لسويعات للعراق بالذات ، وهو ما لا يمكن أن تخدم فيه سوريا أو تركيا، او السعودية أو حتي الكويت، كبديل.. وحتماً المنطقة الخضراء في بغداد لا تتسع ولا تتمتع بذات الدرجة من الأمن أوالرفاه!!


وبمناسبة الحديث عن الأمن، هنالك الشق الاخر للمعادلة، وهو أمننا الوطني الذي أعلنت هذه الحكومة وكرر وراءها مجلس النواب انه بات يمثل أولوية مطلقة، بعد تفجيرات فنادق عمان خاصة. فإذا قبلنا أن هذه التفجيرات وراء التوجه الأمني هذا، إن لم يكن سابقاً عليه، وإذا قبلنا باقي القصة الرسمية والتي تتلخص في أن الإرهاب أتانا من الخارج لظروف تعيشها دول الجوار، والعراق بالذات، وليست له مبررات أو جذور محلية، فالنتيجة المنطقية هي ان نسد الباب الذي تأتينا منه الريح. .أي أن لا نستجلب غضب أية جهة بأن نتخذ مواقف تستفزها. وغني عن القول أن في مقدمة الجرائم التي تريد امريكا تحصين مواطنيها من المساءلة الجنائية الدولية عليها، هي ما اقترفته قواتها وسياسيوها في العراق، كونه يفوق مجموع ما سبق واقترفته كماً ويزيد عليها فداحة. بدءاً من الإبادة الجماعية إلي التعذيب الجماعي وهتك الأعراض. وهذا يعرف دولة الرئيس أن عقابه في أعرافنا وتراثنا لا أقل من أن يسال علي جوانبه الدم . . وحتماً لا يسوّي أمره بحفنة دولارات ، هي اساساً بعض ما يتم نهبه من العراق وترتكب أمريكا لأجله هذه الفظائع!!
وفي هذا الإطار، تكون الحكومة (هذه وسابقاتها)، قد اخطأت بإثارة موضوع المساعدات الأمريكية كمبرر لتوفير حصانة لمرتكبي هذه الفظائع.. فللمصلحة حدود، وهذه ابعد عن ان تكون مصلحة عليا ، فهذا يناقض المعني اللغوي المحض للكلمة، قبل أن يناقض مدلولاتها الأخلاقية أو حتي السياسية!! !


ودونما عودة للخوض في الأبعاد التي أوفيناها حقها في مقالتنا السابقة. . نتوقف عند المصلحة السياسية لنتساءل علي مستوي الوطن، أوضمن ما يطلب من المواطن من التفاف حول أية حكومة أو برنامج حكومي باسم الولاء والانتماء : هل وضع بطاقة سعر لكل أمر بلا استثناء سياسة تحقق الحد الأدني من مقومات أية مواطنة يعوّل عليها، ام هل تودي هذه السياسة بما تبقي من حس بالمواطنة ومن ولاء وانتماء كنا سنجزع لو خيل إلينا ان الشعب قبل بهذه السيلسة القيميّة الجديدة، ولكن واقع الحال غير هذا، وتعرفه الحكومة. تعرفه، ولكن هل تعيه هل تعي معني أن تفقد الثقة الأهم من مجرد مسرحية تصويت نيابية وحملة تهليل صحفية تعرف هي أفضل منا أنهما مقابل ثمن. . أي أن معاقل الحكومة فقط هي التي قبلت بوضع بطاقة السعر في سوق، هذه الحكومة أقل قدرة علي المضاربة فيه من سابقاتها التي مازال بعض أقطابها يوظف ريع فساده. . فكيف حين تصبح السوق دولية بفعل هكذا اتفاقيات !!
وحديث السوق هذا يؤدي بنا إلي البعد الاقتصادي والمالي لهذه الاتفاقية. وقول الحكومة بأن الثمن هو في حدود الأربعمائة مليون دولار معونة سنوية (سجل النائب عبد الرحيم ملحس أن معظمها يأكله الفساد أو التسلية )، قول لا يشعر المواطن بالأمان، بل يذكره بأمان فقده. فأكثر من هذا كان يأتينا من العراق المحاصر علي شكل نفط يصل جله للمواطن الأردني لأن النظام العراقي السابق ضمن هذا واشترطه!! وهذا يعيد فتح ملفات نفطية عديدة عند المواطنين، لتجار النفط من المسؤولين السابقين، بل و مهربيه منهم والذين كشف الأمريكان انفسهم تواطؤهم معهم فيه، بغير ما صدفة!! والمواطنون المتأثرون بكل هذه التجاوزات التي تصل هي ايضاً حد الجرائم ضد الإنسانية هم العراقيون بقدر ما هم الأردنيون، وصمت الحكومات علي الساحتين المفقرتين لن يجدي سوي تأجيج الغضب الذي يوجد منه حالياً كم كبير متداول في المنطقة، يصدر او يهرب هو ايضاً عبر الحدود..
لا يجوز ان ينظر إلي العلاقة مع امريكا علي اساس أننا في حالة حرب معها ، يقول دولة الرئيس. . ولكن ما مبرر ان نخوض بالمقابل حربهاً معها، أو بالأحري بدلاً منها، كوننا الجار الأقرب لأرض معركة اختارت هي أن تخوضها وتؤججها بسلسلة جرائم ضد الإنسانية !! وليس بين معارضي الاتفاقية من زعم ان الأردن دولة عظمي ويحمل علي ظهره هموم العرب والمسلمين واننا جاهزون لدفع الثمن . . هو العكس تماماً، نحن نقول أننا لسنا دولة عظمي، ولهذا بالذات لن نستطيع دفع ثمن ما تقترفه دولة عظمي، وما اوضحناه في هذه العجالة هو جزء يسير من هذا الثمن الذي دفعنا والذي ينتظرنا. . ثم إن كون وطننا صغيراً، في حجم بعض الورد ، لا يقلل من شعورنا بالفخر به وبأنفسنا ، بل يزيد من حرصنا عليه وعلي سيادته وعزته.


كاتبة اردنية