الياس خوري


منذ المقال البائس الذي نشره نزيه ابو عفش في الآداب ، بعيد الانسحاب العسكري السوري من لبنان، وتميّز بنبرته الشوفينية، وتماهيه المفاجئ مع النظام البعثي في سورية، ونحن في البلدين نعيش دوامة مرحلة انتقال صعبة ومعقدة، يختلط فيها كلّ شيء بكلّ شيء. ورغم ان الكتابات المتميزة لمجموعة من المثقفين السوريين: صبحي حديدي، برهان غليون، ياسين الحاج صالح، محمد علي الأتاسي، وآخرين، تسد نقصا يبدو فادحا، الي جانب مساهمات لبنانية عديدة، فان المسألة باتت في حاجة الي ايضاح وتأطير فكري علي الأقل، قبل ان يجرفنا الواقع السياسي بخياراته الوحشية الي ما يشبه الشلل.
لا بد في البداية من التوقف عند شهادة رمزين في الحركة الوطنية الديمقراطية اللبنانية: سمير قصير الذي دفع حياته ثمنا لحلمه بربيع مشترك في بيروت ودمشق، وجورج حاوي الذي اغتيل في حمّي قيام النظام الأمني السوري ـ اللبناني المشترك بتصفية حسابه مع المقاومة الوطنية اللبنانية التي رأت ترابط مقاومة الاحتلال الاسرائيلي مع النضال من اجل الديمقراطية في لبنان، ورفع هيمنة النظام السوري عنه. والشهادتان جزء من تراث كبير جسده فرج الله الحلو الذي قضي تعذيبا في اقبية مخابرات عبدالحميد السرّاج في دمشق، وحسين مروة ومهدي عامل اللذان دفعا حياتهما ثمنا للثقافة الديمقراطية في زمن الهيمنة.
شهادة الكلمة والدم صنعت ترابطا لا انفكاك له بين الثقافة في البلدين، وصنعت تراثا مشتركا للنضال الديمقراطي، لا يستطيع احد تجاهله.
النقاش ينطلق اذا من تجربة مشتركة، فالديمقراطيون في البلدين ليسوا في حاجة الي دروس في العروبة والوطنية من اجهزة المخابرات، التي استباحت كل شيء، وحولت الكلام لغوا لا معني له.
هناك ثلاث مسائل في حاجة الي بلورة، كي يتسني للنقاش الفكري في البلدين ان يتخذ طرقه الايجابية، عبر المساهمة في بلورة افق تغييري للتحولات الكبري التي تعصف بهما منذ اغتيال الرئيس الحريري.
المسألة الاولي، تتعلق بترابط النضال من اجل الديمقراطية في البلدين. كلّ كلام عن ان لبنان يستطيع ان يستقل ويصبح ديمقراطيا، بمعزل عماّ يجري في سورية، لا معني له. فلقد نجح النظام السوري في اعادة الأمور الي ما كانت عليه تاريخيا، اي الي الترابط الوثيق، الذي همشته التجربة الناصرية. صحيح ان الترابط اتخذ شكل هيمنة فجة، وانتهاك للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من قبل اجهزة المخابرات المشتركة التي تمركزت في عنجر، غير ان الصحيح ايضا ان ما عاناه اللبنانيون هو جزء يسير من معاناة الشعب السوري خلال اكثر من ثلاثة عقود. ان انزياح كابوس الحكم الاستبدادي عن لبنان لا يكتمل الا بانزياحه عن كاهل الشعب السوري ايضا. هذا لا يعني ان يعتبر بعض اللبنانيين ان مهمتهم اسقاط النظام السوري، فهذه مهمة الشعب السوري وحده، ولكنه يشير الي المسار التاريخي المحتمل، والي ضرورة بناء تعاون حقيقي بين القوي الديمقراطية في البلدين.
المسألة الثانية، ترتبط بمستقبل العلاقة بين الشعبين والدولتين. لم يعد الكلام العام كافيا في هذا الصدد، وروائح المواقف العنصرية تفوح من كلّ جانب. مسألة العلاقة التاريخية والجغرافية يجب ان تحتل مكانها في النقاش. صحيح ان معاهدة الاخوة والتعاون التي وقعت في زمن الهيمنة مليئة بالاجحاف، وتخلو من اي توازن. غير ان استعادة التوازن يقتضي البحث في اطر جديدة للتعاون، تأخذ في الاعتبار التكامل بين البلدين، والمصالح الاستراتيجية التي تجمعهما. استقلال لبنان يجب ان لا يكون شبيها بكارثة الانفصال في دولة الوحدة، او نسخة عن المناخ الذي ساد بعد احتلال الكويت. بل علي العكس، يجب ان يخلق حافزا لدي الوطنيين في البلدين من اجل ارساء العلاقات علي اساسي الندية والمصلحة المشتركة.
المسألة الثالثة هي الأكثر خطورة، لأنها تتعلق بالأفق الاستراتيجي للصراع مع الاحتلال الاسرائيلي. فلسطين جزء من بلاد الشام، اي من دائـــرة استراتيجية واحدة تضم سورية ولبنان وفلسطين والاردن.
لقد انحصر الصراع العربي ـ الاسرائيلي هنا، او في جزء من هذه البلاد، بعد معاهدة السلام الاردنية الاسرائيلية، وخروج مصر من المعادلة بعد كامب دايفيد، والانهيار التدريجي للممانعة العربية.
هذا يعني ان هناك حاجة الي رؤية استراتيجية مشتركة بين لبنان وسورية فلسطين، من اجل تنظيم مقاومة مديدة، في ظلّ موازين قوي غير ملائمة.
استراتيجيات زمن الحرب الباردة، التي اثبتت عقمها بسبب الانظمة الاستبدادية العربية التي اهدرت جميع الفرص، وقادت العرب من هزيمة الي هزيمة، لم تعد صالحة. بل صارت هي والانظمة عنصري تهديد للبقاء العربي نفسه.
بهذا المعني، فان النضال من اجل الديمقراطية والاستقلال في لبنان وسورية، ليس اعلان خروج من الصراع، مثلما تحاول ابواق النظام الاستبدادي ان تقول. بل هو اعلان بالدخول الكامل في الصراع الذي لم تعد لغة المرحلة الماضية وادواتها ملائمة له، بل صارت عقبة امامه، ووسيلة لفرض التفكك علي المنطقة.
تعيدنا هذه المسائل الثلاث الي اللحظة النهضوية التي علينا استعادتها، كي نستطيع ان نكون علي مستوي اسئلة المرحلة وتحدياتها. لذا فان لحظة الاضطرابات السياسية التي تعيشها المنطقة هي لحظة ثقافية بامتياز.
ان مواجهة تحالف الاضداد: انظمة الاستبداد، والقوي التكفيرية، والشراهة الكولونيالية، لا تكون الا بمشروع نهضوي جديد، يعيد الاعتبار للقيم التي استباحها الاستبداد، ويرسم افق نضال مديد من اجل اخراج المشرق العربي من كابوس الانحطاط.