السبت:21. 01. 2006
د. حسن حنفي
الحج هو الركن الخامس في الإسلام وأكثرها شعائريةmiddot; لذلك يسمى باستمرار ''مناسك'' أي شعائرmiddot; في حين أن أقلها شعائرية هي الشهادة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الصلاةmiddot; وتعني ''حجَّ'' أيضا جادل وانتصر على الخصومmiddot; ومن اللفظ أيضا الحِجاج أي الجدل، والحُجة أي الدليلmiddot; فالحج دليل على شيء وليس المقصود منه المناسكmiddot;
وقد ذكر لفظ ''حج'' بمعنى الدليل في القرآن عشرين مرة، وبمعنى المناسك ثلاث عشرة مرةmiddot; فالحج دلالة ومعنى وليس شعيرة ونسكاًmiddot; والدلالة أهم من الدالmiddot; الدلالة فعل في العالم وجهاد فيه،(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين)middot; فمساواة الشعيرة بالدلالة ظلم لأنهما لا تستويانmiddot; وقد تعني الحِجَّة السنة لأنها مرة واحدة في العام الذي يتخلله فعل وعمل وزراعة وتجارة وإنتاج كما طلب شيخ مدين من موسى أن يعمل لديه ثماني حجج وإن عشرا فمن عنده كمهر تزويج ابنته إليه،(على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشرا فمن عندك، وما أريد أن أشق عليكmiddot; ستجدني إن شاء الله من الصالحين)middot; فالحج تطوع وليس مشقة، لمن استطاع إليه سبيلا (ولله على الناس حِج البيت من استطاع إليه سبيلاً) والاستطاعة ليست فقط المال أو الجسم بل أيضا القبول العقليmiddot; وهي القدرة على إتيان الشعائرmiddot; منها عزائم ومنها رخصmiddot; فإن لم يستطع إتيان الشعائر كلها عزيمة وحرفيا فعليه ما استيسر من الهَدْيmiddot;
وفي الممارسة الاجتماعية تحول الحج عند البعض إلى غرور وجاه ولقب وزفة وتجارة ومنافع ومزايدة في الدين ورغبة في الشهرة والتستر على الغش والنهب والاستغلال بالدين والمظاهر الشكليةmiddot; مع أن المقصود من الحج طهارة النفس، وتقوى القلب (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)middot;
ودلالة الحج الأولى هي الوحدة، وحدة البشر جميعا ووحدة الأمةmiddot; ثلاثة ملايين من الحجيج في مكان واحد وزمان واحد وبهتاف واحد ''لبيك اللهم لبيك'' تعلن عن القوة الضاربة لمليار وربع مليار من المسلمين، خمس سكان المعمورة، في لحظة تاريخية واحدة، ومن موقع واحد، ولهدف واحد، لا فرق بين جنس ولون ولغة وعرقmiddot; أما الواقع فمختلف تماماmiddot; فالأمة ممزقة مختلفةmiddot; يعتدي بعضها على بعض آخر بالاحتلال المباشر أو بمعارك الحدود أو بالحروب الأهلية الداخلية أو بالانقسام العرقي والطائفي أو بتضارب المصالح والأهواءmiddot;
والدلالة الثانية المساواة التامة بين البشرmiddot; فالكل في لباس واحد، لباس الإحرام، عاري الكتف، بلباس أبيض وخف غير مخيط، لا فرق بين فقير وغني، عظيم وحقير، حاكم ومحكوم، قوي وضعيف، رئيس ومرؤوسmiddot; ''كلكم لآدم وآدم من تراب''، ''وأنا شهيد على أن عباد الله إخوان''middot; خلق الناس جميعا من نفس واحدةmiddot; لهم وحدة المصدر ووحدة المصيرmiddot; يقف الإنسان الطبيعي كما ولدته أمه دون زيف حضاري أو طبقة اجتماعية من لباس أو مركب أو مسكنmiddot; أما الواقع فمختلف تماماmiddot; هناك الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والحكام والمحكومون، والأسياد والمسودون، والسجانون والسجناء، والملوك والرعايا، والسلاطين والعامةmiddot;
والدلالة الثالثة وجود مركز للأمة الإسلامية، بيت الله الحرام تطوف حوله، وجبل عرفات يصعدون إليهmiddot; فالأمة بما لها من ثقل يصعب أن تكون طرفا لمركز آخرmiddot; كان الهدف من مناسك الحج أن يصبح لشبه الجزيرة العربية مركز قديم جديد، للتجارة والإمارة، للثروة والسلطةmiddot; وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود من الحجيجmiddot; وكانت مكة مركز تجارة القوافل بين الشمال والجنوب، في رحلتي الشتاء والصيفmiddot; ونشأت دولة جديدة من وسط شبه الجزيرة العربية تفرد جناحها شرقا على إمبراطورية الفرس، وغربا على إمبراطورية الرومmiddot; والآن أصبحت الأمة الإسلامية طرفا لغيرها من المراكز في الغرب أم في الشرق سواء في عصر الاستقطاب أو في عصر القطب الواحدmiddot; إذ يسهل بعد تفتيت الأمة أن تنجذب أجزاؤها إلى هذا القطب أو ذاكmiddot; والمركز هو البيت العتيق، أول بيت وضع ببكةmiddot; وإبراهيم أبو الأنبياءmiddot; وهو أول المسلمينmiddot; وهو مكان الأمن والسلام وليس الخوف والعنف والقتل المتبادل (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمينmiddot; فيه آيات بيّنات، مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا)middot;
والدلالة الرابعة أن الحج مؤتمر سنوي للأمة تعلن فيه عن موقفها من العالم بين الأصدقاء والأعداءmiddot; وكما هو واضح في سورة ''براءة'' التي تعلن موقف المؤمنين من المشركين في حالة عقد معاهدات السلام والأمن بين الفريقين أم في حالة نقضهاmiddot; فإن تابوا فالصلح وإن تولوا فالحربmiddot; أما الذين لم ينقضوا عهدهم مع المسلمين ولم يظاهروا أحدا عليهم فإن لهم السلم والأمانmiddot; وإن استجار أحد منهم المسلمين فله أمنه وعهده عند المسجد الحرامmiddot; فإن نكث بالعهد فإنه يكون مع الأعداءmiddot; تغتاظ قلوبهم ولا يرقبون في المسلمين إلاًّ ولا ذمةmiddot; يرضون المسلمين بالأفواه وليس بالقلوبmiddot; وهو اختبار للمسلمينmiddot; والحج دلالة رمزية على مسار الأمة في التاريخ بين أصدقائها وأعدائها كما هو الحال في خطبة الوداعmiddot; والدلالة الخامسة، رمي الجمرات على الشيطان بعشرات الحصى وحماس الحجيج لذلكmiddot; يدفعون بعضهم بعضا إلى درجة الموت دفعا ودهسا بالأقدام حتى تمتلئ الأرض من فوق الجسور بمئات الأطنان من الحصىmiddot;
والدلالة السادسة، ألا يمثل السعي بين الصفا والمروة البحث عن الماء للبقاء وعن الزرع للحياة (إن الصفا والمروة من شعائر الله)middot; ألا تعني مياه زمزم تفجير الينابيع من الأرض للإبقاء على الحياةmiddot; (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاةmiddot; فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)middot; فالمياه والزرع والاستقرار تعني التنمية والعمرانmiddot; ومازالت الصحاري قاحلة، والمياه نادرةmiddot;
والدلالة السابعة الفداء أي الضحية أي فداء الإنسان بالكبشmiddot; فالإنسان لا يُذبح حتى ولو كان بأمر الوحي في المنامmiddot; الإنسان قيمة مطلقة مهما كانت الظروف (وفديناه بذِبح عظيم) والواقع انتهاك حقوق الإنسان، وآلاف المعتقلين السياسيين، والمعذبين في السجون، والحشر في وسائل النقل العامة والمدرجات الجامعية، وسكان النجوع وأطفال الشوارع وقاطنو المقابرmiddot;
إن الحج له منافع للناس وليس مجرد شعائر وطقوس بل إن المنافع سابقة على ذكر الله (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)، فالطواف يأتي في النهاية وليس في البدايةmiddot; وإطعام الجائع والفقير يأتي في البداية وليس في النهايةmiddot;
تلك هي الدلالة المعاصرة للحج والتي تتجاوز الشعائر والطقوس والأشكال الخارجية إلى المضمون في القلب وفي حياة الناس، التقوى الباطنية ومصالح الأمةmiddot;
التعليقات