في مقابل الاستعجال التركي لحيازة أكبر قدر من النفوذ في سوريا في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، يلاحظ فتور مصريّ حيال التواصل مع حكام دمشق الجدد والاكتفاء بإعلان موقف عام يستند إلى "دعم سيادة سوريا ووحدتها، ورفض الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية". ينطلق الموقف المصري من الحساسية الشديدة حيال الإسلام السياسي بكل مكوناته، من سلفية وجهادية؛ وتالياً، عندما تحكم "هيئة تحرير الشام" دمشق، وبهذه السرعة، فمن الطبيعي أن تتروّى القاهرة قبل اتّخاذ موقف من الزلزال السوري. الحسابات المصرية لا بدّ لها من أن تأخذ بالاعتبار الانعكاسات المحتملة لما جرى في سوريا، سواء على مصر أم على دول عربية أخرى. هل يمكن أن يتشجع الإسلام السياسي، لا سيما "جماعة الإخوان المسلمين" بالنموذج السوري للعودة بالمنطقة إلى أجواء 2011؟ عدا ذلك، لن تنظر مصر إلى الاستحواذ التركي على سوريا الجديدة بعين الرضا، وهي بالكاد رمّمت علاقاتها مع أنقرة في مقابل حصر تركيا نشاط "الإخوان المسلمين" المصريين على أراضيها، فما بالك الآن و"إخوان" سوريا عادوا ليشكّلوا قوة أساسية هناك بعد انهيار النظام السابق. تتحدث تركيا اليوم عن الاستعداد للانخراط بقوة في تشكيل الإدارة السياسية الجديدة في سوريا، في المجالات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، ويستعجل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إبرام اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين بلاده وسوريا، بما يعيد إلى الأذهان اتفاق الترسيم البحري بين تركيا وحكومة "الوفاق الوطني" الليبية السابقة برئاسة فايز السراج، مما تسبب باعتراضات دول متوسطية عدة في مقدّمها مصر واليونان وقبرص. بديهي أن يفجّر التغيير الكبير الذي حصل في سوريا تنافساً جيوسياسياً بين مصر وتركيا الدولتين اللتين هما على طرفي نقيض في ليبيا مثلاً. القاهرة تدعم اللواء خليفة حفتر في شرقي ليبيا، بينما تدعم أنقرة حكومة "الوحدة الوطنية" برئاسة عبد الحميد الدبيبة في غربي البلاد. وسارعت حكومة الدبيبة إلى إرسال وفد عالي المستوى إلى دمشق تعبيراً عن دعمها النظام الجديد. وامتداد النفوذ التركي إلى أثيوبيا والصومال توّج باتفاق أبرم في أنقرة الأسبوع الماضي لخفض التصعيد بين البلدين، مما قد يثير قلقاً مصرياً بسبب النزاع المستمرّ بين القاهرة وأديس أبابا بشأن سدّ النهضة على نهر النيل. والآن، فإن الدور الأساسي الذي تلعبه تركيا في سوريا مع تبدّد النفوذين الإيراني والروسي، مرشّح للتوسّع في حال مضى أردوغان (وهذا هو المرجّح) في شن هجوم واسع على مناطق سيطرة الأكراد في شمال شرقي سوريا بهدف استئصال "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) المكوّنة بمعظمها من "وحدات حماية الشعب" الكردية، التي تعتبرها أنقرة النسخة السورية من "حزب العمال الكردستاني"، الذي يقاتل من أجل الحكم الذاتي في جنوب شرقي تركيا منذ 1984. الانفلاش التركي في سوريا يوحي بأنّه من غير المسموح لأيّ دولة بالوصول إلى دمشق إلا عبر أنقرة، التي تعزو لنفسها الفضل الأكبر في إسقاط النظام السابق. معادلة من شأنها إثارة القلق، ليس في القاهرة فحسب، وإنما في دول إقليمية أخرى، حتى ولو كانت تواصلت مع القيادة السورية الجديدة. ومع أن دولاً في المنطقة أراحها انحسار النشاط الإقليمي لإيران بعد الخسارة الاستراتيجية في سوريا والضعف الذي لحق بحليفيها "حزب الله" و"حماس" بفعل الضربات الإسرائيلية، فإن وراثة تركيا للدور الإيراني، قد لا تكون محلّ ترحيب لدى هذه الدول ذاتها. التريث المصري حيال الحدث السوري له مبرراته في منطقة قيد التشكل من جديد على وقع زلازل تضربها منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وصولاً إلى انهيار النظام في سوريا.