كامل زهيري
لا أكاد أنسى مكاناً زرته، أو وجهاً رأيته! وقد يكون السبب أن عيني أقوى من أذني.
وحين أنظر حتى أرى، أحملق عادة.. وأحدق. وحين أسمع، أحيانا لا أنصت! ومن هنا تبقى في ذاكرتي الصور سنوات. وقد تتسرب الكلمات. لأن ذاكرتي البصرية أقوى من ذاكرتي السمعية.
ولعل هذا سبب شغفي بالرسم والعمارة والمرئيات. وسبب حبي الشديد والمبكر للسفر وسر حبي وحماسي للصحافة. لأنها مهنة وحرفة ومتعة. وهي سفر ورحلات بين المكان أو الزمان. وتعيش الكتابة فيها على القراءة. وهي أيضا سفر بين السطور والكلمات.
وبعض الصور باقية بتفاصيلها في ذهني سنوات عديدة، لا تنمحي.
ومنها صورة أنديرا غاندي. حين كانت رئيسة وزراء الهند عام 1966 وقد قابلتها في مكتبها بمجلس الوزراء. وكانت الرحلة هامة لأن الرئيس عبدالناصر قرر الانتقال إلى الهند بعد أزمة 66 مع أمريكا. وكان لقاء دلهي بين عبدالناصر وتيتو وأنديرا غاندي.
وقد عشت في الهند عاماً كاملاً بعد الاستقلال. ورأيت نهرو. ثم عدت إلى الهند بعد 17 عاما لألتقي بابنته أنديرا غاندي. وقد أصبحت أقوى امرأة في السياسة. وكانت قد سبقت في السياسة السيدة البريطانية الحديدية مارجريت تاتشر. والسيدة المخملية الباكستانية بنازير بوتو. وكان اللقاء مع أنديرا غاندي مفاجأة. فقد بدت خصلتها البيضاء تطل من يمين رأسها. ولفتتني البساطة الشديدة في مكتبها. فلم يكن على المكتب ورق كثير. ولم أشم في مكتبها عطر المرأة لكني توقفت بعيني على الوردة الوحيدة التي وضعتها بعناية في مزهرية أنيقة على يمينها فوق مكتبها. وأحسست أنها تفضل رائحة الورد الطبيعية على العطور النسائية. وبقدر ما أحسست أنها رقيقة المشاعر إلى حد الشاعرية. أدركت أنها حديدية الإرادة.
وتسمرت عيناي على الوردة الوحيدة فوق مكتبها. فقد ذكرتني بصورة أخرى وبالوردة التي كان يضعها أبوها جواهر لال نهرو قبل عشرين عاماً. حين كان أول رئيس وزراء لحكومة الهند بعد الاستقلال. وكان يشبكها في ثوبه الهندي الأنيق. وكان حريصاً أن يختار ldquo;برعماًrdquo; لم يتفتح بعد. وحريصاً أن يبدل وردته كل صباح. ولا أظن أن أباً أثر في حياة ابنته كما فعل جواهر لال نهرو. وقد ألف عام 1934 كتاباً عنوانه ldquo;رسائل من أب إلى ابنتهrdquo; أو ldquo;النظرات حول العالمrdquo; وكان يرسلها من السجن أيام الاحتلال البريطاني وقد سجن نهرو عشر سنوات على تسع مرات. ومن هذه السجون تدفق بالمشاعر والأفكار والنصائح إلى ابنته ldquo;أندوrdquo; كما كان يسميها. ونشأت أنديرا في عائلة سياسية لأن جدها لوالدها موتيلال كان محامياً شهيراً.. ومن زعماء الحركة الوطنية وأتباع المهاتما غاندي. وترأس حزب المؤتمر. وانحدرت عائلة نهرو من كشمير لتسكن ldquo;الله آبادrdquo; قلب الهند الذي يحتشد فيه الهندوس والمسلمون والمنبوذون. وتجمع الكل للمطالبة بالاستقلال. أو ldquo;انقلاب زند آجالrdquo; أي ldquo;تحيا الحريةrdquo; واشتركت أمها ldquo;كمالاrdquo; في حركة الساتياجراها التي قادها غاندي. وسجنت كمالا مع جواهر لال وداهمها المرض وماتت شابة. ولم يتزوج نهرو بعدها. وأصبحت ldquo;أندوrdquo; الصغيرة سيدة البيت بعد وفاة أمها المفاجئة.
وقد نشرت سونيا غاندي. أخيرا. الإيطالية الأصل والتي تزوجت راجيف غاندي مجموعة جديدة من الخطابات التي تبادلتها ldquo;أندوrdquo; مع ldquo;بابوrdquo; أو الابنة مع الأب ما بين عامي 1922 و،1939 ولم تترجم هذه الخطابات بعد. وقد نشرت تلك الخطابات المجهولة بعد رحيل الأب والابنة معاً.
ونشرت سونيا غاندي خاتمة الكتب التي قرأتها أنديرا في لندن وسويسرا بالإنجليزية والفرنسية. وتكتشف أنها قرأت ldquo;الأيامrdquo; لعميد الأدب العربي طه حسين بالإنجليزية. وتكتشف أيضا أن الصغيرة وهي في السابعة من عمرها حضرت مظاهرة لإحراق الثياب المستوردة من الخارج حين دعا غاندي لمقاطعة البضائع الأجنبية. ودعا الهنود إلى الاعتماد على المغازل اليدوية. ولم تكن قراءة أنديرا غاندي لكتاب الأيام لطه حسين صدفة. لأن صلة الوصل بين الحركة الوطنية في الهند وفي مصر. وبين حزب المؤتمر وحزب الوفد كانت قديمة وراسخة. لأن الاحتلال واحد وهو الاحتلال البريطاني. ولأمير الشعراء شوقي قصيدة رائعة عن المهاتما غاندي حين مر في طريقه إلى لندن عام ،1931 ومنعته سلطات الاحتلال من النزول في بورسعيد خشية المظاهرات. ولحافظ إبراهيم قصيدة ثانية عن غاندي. وللعقاد أيضا قصيدة ثالثة. وقد أرسلت صفية زغلول أم المصريين برقية إلى غاندي. كما أرسل إليه مصطفى النحاس زعيم الوفد في عز وزارة إسماعيل صدقي والتضييق على الصحافة وحرية النشر وتقول برقية النحاس بحزم واختصار: ldquo;باسم مصر التي تجاهد من أجل حريتها واستقلالها أرحب في شخصكم العظيم بالهند التي تحارب هي الأخرى لتحقيق نفس الهدفrdquo;.
وفي كتاب سونيا غاندي الذي لم يترجم بعد للعربية 319 خطاباً متبادلاً بين الأب وابنته وما بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 1922 و21 ديسمبر/كانون الأول 1939 ولابد أن تتوقف قليلاً عند خطاب نهرو لأنديرا في 19 أبريل/نيسان 1939. وكان نهرو بحسه السياسي يدرك أن الحرب وشيكة على الأبواب فيقول لابنته:
ldquo;جلست بالأمس أستمع للإذاعة وأحسست فجأة أنك ستصلين بالسلامة إلى إنجلترا قبل اشتعال الحرب (قادمة من سويسرا حيث كانت تدرس). وسواء اشتعلت الحرب أم لم تشتعل فهي لن تنزل علينا قبل عشرة أيام أو ما يقرب من ذلك. لأن هتلر سيرد على روزفلت في 28 أبريل. ولكني آثرت إرشادك لو أن الحرب اشتعلت وأنت في طريقك إلى مصر. حينئذ عليك أن تدركي أن عدداً من أصدقائنا هناك يستطيعون تقديم العون: النحاس باشا، ومصريون آخرون، والجالية الهندية في القاهرةrdquo;.. وتكتشف من قراءة الخطابات المتبادلة أن نهرو يناقش كل شيء بالعقل والتحليل ولكنه يخفي قلباً مرهقاً وتكتشف في خطابات أنديرا أنها صعبة الدموع تناقش كل شيء بشجاعة ldquo;لأنها من عائلة مساجينrdquo; جدا عن أب، وأبا عن أم. وكانت ldquo;كمالاrdquo; عزيزة على زوجها لأنه أهدى أول كتبه بهذه الكلمات: ldquo;إلى كمالا التي لم تعد بينناrdquo;.
ومن الخطابات تدرك أنهما يشتركان أيضا في حب الفنون والآداب. مع مسحة من الرومانسية. ووسط الكفاح والسجن والسفر في أنحاء شبه القارة المترامية كان نهرو لا ينسى أن يصف لابنته زيارته لتاج محل. أجمل الآثار الإسلامية في ضوء القمر. بينما تصف أنديرا لأبيها زيارتها للمعارض والمتاحف وتتحدث عن الرسامين رامبراندت وبوتشيللي حديث المتذوق العارف. كما ستتحدث عن الموسيقار موزار. وتقول إنها أحست بالحنين إلى العودة لدراسة العزف على الكمان. وتحدث والدها عن الأدب الفرنسي والألماني والإنجليزي. كما يحدثها والدها عن أصدقائه الذين يزورونه في الهند. مثل جون جنتر صاحب كتاب ldquo;داخل آسياrdquo; ورومان رولان صديق غاندي وتولستوي.
ويداعبها أبوها وقد لاحظ أنها تسقط في خطاباتها بعض الكلمات أو العبارات الفرنسية. بين وقت وآخر. ومن أحد خطاباته وكان لا يزال في الخمسين. يستشهد بمثل فرنسي يقول: آه لو كان الشباب يعرف ولو كان المشيب يستطيع.
وتكتشف في تلك الرسائل بعض ما خفي من طفولة أنديرا غاندي وتربيتها عند الصغر. لأن أباها أرسلها إلى مدرسة خاصة أنشأها شاعر الهند الكبير طاغور. وأمضت فيها ثلاث سنوات. وكانت بالقرب من بومباي. وأسسها طاغور حتى لا ينقطع الصغار عن التراث والتقاليد. وحتى لا تجتاحهم طرق التعليم التي حرص الاحتلال على فرضها في الهند.
وقد بدأ الشاعر طاغور مدرسته الصغيرة في ldquo;شانتيكمتانrdquo; في مطلع القرن الماضي. وقال ldquo;أمضيت معظم حياتي في الكتابة وخاصة كتابة الأشعار. وقد يظن البعض أن تكون فكرتي بدعة ولكن الشاعر حرص على أن يصحو تلاميذه الصغار في الفجر. بالغناء. لجمال الفجر وهدوء السماء ثم يأخذ الأولاد في تنظيف حجراتهم بأنفسهم. ليتعلموا منذ البداية ولا يحتقروا عملاً يدوياً مهما يكن وأن يستقلوا بأمورهم دون مساعدة من الخدم. وعليهم ممارسة بعض التمرينات الرياضية في الهواء الطلق. يعقبها حمام الصباح. ثم ينفرد كل منهم بنفسه في تأمل هادئ مدة ربع ساعةrdquo;.
وتقام الدروس تحت الأشجار في حديقة المدرسة وكان طاغور حين يسمح الوقت يحدث التلاميذ في الأدب والموسيقا ويشجع على الرسم والشعر وكان يرسم لوحات جميلة إلى قصائده الرائعة.
وكتب طاغور بين 1909 و1910 معظم الأغاني التي ضمها أشهر دواوينه ldquo;باقة الأغانيrdquo; أو ldquo;جيجاليrdquo; وكان الأطفال يتغنون بها في أوقات فراغهم ldquo;وهم يجلسون جماعات في الليالي المقمرة أو في أيام يوليو تحت السحب الداكنة الواعدة بالمطرrdquo;.
وكانت ldquo;باقة الأغانيrdquo; التي ترجمها طاغور من البنغالية إلى الإنجليزية. وطبعتها جمعية الهند في لندن عام ،1912 في نسخ محدودة من أسباب فوز طاغور بجائزة نوبل في الأدب عام 1913 وقد ترجمها إلى الفرنسية أندريه جيد صديق طه حسين. وقد عرفنا العميد بأدب أندريه جيد في مجلة الكاتب المصري وحرصت أيام الجامعة على حضور محاضرته التي ألقاها في جمعية خريجي الجامعة. وكانت قرب عمارة الإيموبيليا في الدور الأول. ومع أنني ذهبت مبكراً. فقد وجدت ما يشبه المظاهرة من شدة الزحام وقد غطى الشبان سلالم العمارة ولم أفز بكلمة واحدة من محاضرة جيد. وعزيت نفسي أنني رأيت أندريه جيد وجواره صديقه الحميم عميد الأدب!
وقد أقمت عاما كاملا مذيعا ومترجما في صوت عموم الهند. ومراسلا بالقطعة للأهرام. وبعد 17 عاما عدت إلى دلهي للمرة الثانية مندوبا عن الهلال والمصور في لقاء عبد الناصر وتيتو وأنديرا غاندي. ولم انقطع عن القراءة أو الكتابة عن الهند ولكنني ظللت أحس بالندم لأنني لم أزر في إقامتي الأولى مدينة ldquo;أجراrdquo; ولم أشهد تاج محل أحد عجائب الدنيا السبع مع أن تاج محل لا تبعد عن عاصمة الهند سوى بضع ساعات.
وتهيبت أن أقترح زيارة سياحية إلى البرنامج السياسي المشحون ولكن أكثر المتحمسين لزيارة تاج محل كان محمود رياض وزير الخارجية. واكتشفت بعدها أنه عاشق بلا حذر.. للعمارة والأشجار والزهور وقد نشرت ملفاً كاملاً من الصور التقطتها بالكاميرا. وعدت إلى الكتابة عن تاج محل بعنوان: ldquo;دمعة على خد الخلودrdquo;.
وكانت زيارتي للهند الأولى والثانية ldquo;رحلة بين الألوانrdquo; واللون في الهند كالحرارة ملتهب. ويطلق الرسامون على اللون الأحمر حين يكون شديداً ملتهبا وصف ldquo;الهنديrdquo; كما يطلقون على الأزرق الصافي ldquo;الأزرق البندقيrdquo; نسبة إلى البندقية وتستطيع أن تقول إن قلب الهند ldquo;شجرةrdquo; والخضرة في الهند كالقطيفة والأخضر ناعم راسخ لأن الأمطار الموسمية تغسل الأشجار ثم تغرقها. وتمد جذورها بالعافية.
ولن تعرف الهند بألوانها إلا إذا زرتها ورأيت سماءها. لأنها أعلى سقف في العالم. وقد تجمعت عند تاج محل فنون الرسم والخط العربي والفارسي. وكان الخطاط عبدالحق يقول: إن نقاء الخطوط من نقاء الأرواح. ولم يعترف النحاتون بصلابة الرخام والجرانيت وقالوا لابد أن يلين الرخام في يد النحات.. ليونة الشمع.
وبعد.. أعود للحديث عن الهند عندما التقيت في القاهرة بنائب رئيس جمهورية الهند كريشان كانت. وهو أيضا رئيس المجلس الهندي للعلاقات الثقافية. وكان الحديث في فندق ميريديان قرب المطار. عن العلاقات الثقافية والعلمية. وقد فاز تسعة هنود بجائزة نوبل. وكان أولهم طاغور. وتاسعهم عالم الاقتصاد ldquo;سنrdquo; وجرنا الحديث إلى أول كتاب بالعربية لأبي الريحان البيروني كتبه منذ ألف عام ldquo;تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولةrdquo; ولحسن الحظ أن هذا الكتاب القديم أعيد طبعه في القاهرة عام 2002 في سلسلة ldquo;الذخائرrdquo; التي تنشرها هيئة قصور الثقافة. ولم أستطع مغالبة دمعي. فما زلت قريب الدمع سريع الاشتعال. لأن كريشان كان حريصاً على تقديم كتاب ldquo;الهند.. أسرار ومفاتيحrdquo; بعدسة وقلم المصري الشهيد إيهاب الشريف السفير المثقف الذي جمع بين الكلمة والصورة.. في كتاب جميل.
التعليقات