سليم عزوز


كنت أخطط للكتابة عن دولة الإنشاد الديني ، نزولا علي قرار اتخذته بالابتعاد عن السياسة خلال شهر رمضان، لكن وكما ورد في الأثر فإن الطبع غلاب!

لا بأس - كما يقول التوانسة - لاسيما، وان الأمر الذي دفعني للعدول عن هذا القرار، يمثل عملية تشييع لأخت عزيزة علينا، الي مثواها الأخير، وليس أعز علي قلوبنا من حركة كفاية ، التي خرجت في العام الماضي إلي الشارع، وهتفت، وهتفنا معها، ضد التمديد والتوريث، فلما جاء هذا العام، كانت قد أصيبت بالشيخوخة المبكرة، علي النحو الذي ورد في مقالنا: حركة كفاية علي طريق النعجة دوللي . لكن لم يكن يمر علي ذلك سوي شهور معدودات، حتي رقدت سيادتها علي رجاء القيامة، وتبقي المشكلة في ان أصحابها، لا يريدون ان يكسبوا ثوابا ويشيعوها إلي الدار الآخرة، فهم ومن باب الحب العذري، أرادوا ان يخلدوها كما كان المصريون القدماء يخلدون موتاهم، من خلال عملية التحنيط، التي لم تقف البشرية علي أسرارها حتي الآن، وعلي طريقة المصريين المحدثين في الريف المصري، عندما يسعون علي الإبقاء علي ابن البقرة المولود ميتا، من باب إدخال الغش والتدليس عليها، فيما يُعرف ب البو !.

البو تتم صناعته بإخراج أمعاء ابن البقرة الميت، وحشوه بالدقيق والملح، وصلب الرأس والأرجل، حتي تظن انه حي يرزق، فالأبقار، كما هو معلوم، لا تدر لبنا إلا لمولودها، ليكون هذا تمهيدا لحصول صاحبها علي مما في بطونها، ما بين فرث ودم، لبنا خالصا سائغا للشاربين!.

والمشكلة ان أصحاب حركة كفاية ، بإصرارهم علي عدم تشييعها الي مثواها الأخير، وعلي أساس ان إكرام الميت دفنه، هم مثل أصحاب ما يسمي بالجماعة الإسلامية في مصر، فعلي الرغم من ان جماعتهم انقلبت علي كل أفكارها، وتنصلت من كل أفعالها، إلا أنهم حريصون علي الإبقاء عليها، وكان المفروض أن يكون أول قرار لأميرها كرم زهدي عقب خروجه من السجن ان يعلن حلها، لكن هذا صعب علي نفسه، لأنه سيفقد اللقب، ويصبح واحدا من عامة الشعب!.

كفاية بدأت في الشارع، وانتهت في القصور، وبدأت حركة، وانتهت حزبا، أو ما يشبه الحزب، حاملة كل أمراض الأحزاب المصرية، وكل عاهاتها. وبدأت جماعة مناضلة، وانتهت الي مكتب للعلاقات العامة لتسويق قادتها. وبدأت حركة جماهير، أو ساعية لجذب الجماهير، إلي جماعة نخبوية، واقعة تحت سيطرة نفر من رجال الأعمال، وهو ما أورد جانبا منه الدكتور يحيي القزاز في رسالة احتجاج علي سحور، حمل أسوأ ما في الوليمة ، التي قيل عنها في القول المأثور، ما معناه: بئس الوليمة ، لأنه يدعي إليها وجهاء القوم، ويستبعد منها من دونهم!.

ولم يكن الأمر علي هذا النحو فقط، فالمشكلة في ان السحور لحركة شارع، كان داخل أسوار قصر منيف بمنطقة المقطم، لم يعرض أمره في اجتماع كان قبل ساعات منه علي اللجنة التنسيقية للحركة، ربما خشية من تصويت قد تكون نتيجته الرفض، والدعوة ممن لا يرفض له داخل الحركة أمرا، ليكون ما جري اكبر دليل علي موت حركة كفاية، التي تصورت انها ستنجح في جذب بعض أصحاب الأموال الي الشارع، فإذا بها يجذبونها إلي القصور، لنري وصلة من نضال الصالونات!.

ولم يكن هذا بداية عملية تفريغ للحركة من مضمونها، فهذه عملية مستمرة منذ البداية من اجل إشاعة لغة المال داخل كفاية ، لتصبح هي لغة التفضيل، وشاهدنا كيف ان شبابا انضم الي كفاية مخلصا، علي الرغم من انه لا يملك من حطام الدنيا شيئا، وانتهي المطاف به الي النضال بالأجر، ونحن نعلم ان الذين قاموا بهذا الدور لم يفعلوا هذا من باب الإفساد، فقط هم تعاملوا باللغة التي يجيدونها، ولا يجيدون غيرها، لأنهم سعوا الي تقدم الصفوف، ولم تكن لهم سوابق، او قدم صدق في العمل النضالي، ولم يمتلكوا مقومات شخصية تؤهلهم لاحتلال هذه المكانة، فتحدثوا باللغة التي يعرفونها، ومن قبل قال حكيم: فصاحة حسان، وزهد ابن ادهم، وحكمة لقمان، لو اجتمعوا في المرء، والمرء مفلس ونادوا عليه فلن يباع بدرهم!

وربما كانت المشكلة في إشاعة هذه اللغة داخل حركة قائمة علي شباب لا يملك سوي استقامته، وطهره، وفقره، لا تحدث سرا، وإنما بهدف التجريس، علي نحو يشيع الكراهية، وربما الحقد بين الصفوف، وإذا كنا قد سعدنا بانضمام هؤلاء الأثرياء الي كفاية، فقد بتنا علي يقين، بعد ما جري، بأن رجال الأعمال إذا دخلوا حركة أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة. فأسوأ شيء يمثل إفسادا منقطع النظير هو إشاعة روح النضال بأجر!.

ان من سخريات القدر ان حركة كفاية ، بدأت فكرة في سحور، قيل انه كان في منزل ابو العلا ماضي، وكيل مؤسسي حزب الوسط ، ثم كانت النهاية - غير المعترف بها من قبل أصحابها - في سحور أيضا. وبعد البداية نزلت للشارع، وفي النهاية احتمت بالقصور. وفي البداية نجحت في ان تحشد المئات في تظاهرات حادة، وانتهي الأمر الي عدم القدرة علي حشد العشرات، وكانت الولادة القيصرية هي السبب في وفاتها المتعجلة!.

في مقام سابق قلنا ان الحركة بدأت بعناصر هي في الواقع مخلفات حرب، ومطاريد أحزاب المعارضة، الذين رأوا في الحركة بديلا عن أحزاب طردتهم، وفشل متواتر في عدم نجاحهم في إنشاء أحزاب جديدة ناضلوا من اجل تأسيسها، ولا يزالون، وكانوا في المجمل مطاريد حزب التجمع، والحزب الناصري، وجماعة الإخوان، ومؤسسي حزب الكرامة، والوسط، والذين ربما اعتبروا ان هذا الدور يمكن ان يعجل بقرار الحصول علي الرخصة لأحزابهم، وهذا ما يفسر كيف ان ابو العلا ماضي أصبحت علاقته بكفاية رايح جاي ، فعندما تصله إشارات بأن حزبه سيوافق عليه يدبر، وعندما يفقد الأمل يقدم، وعندما يقترب موعد الحكم في حزبه يختفي من فعالياتها، وعندما يتم التأجيل يحضر!.

وعندما طال علي القوم الأمد، صاروا يتعاملون مع كفاية علي أنها يمكن ان تقوم بدور الحزب، فأخذوا من التجربة الحزبية أسوأ ما فيها، فلا تداول للسلطة، ولا صوت يعلو فوق صوت الزعماء ورجال الأعمال، في ظل التحالف الاستراتيجي بينهما، وقد بح صوت الدكتور يحيي القزاز وهو يطالب بأن يكون منصب المنسق العام مكوناً من عدد من الأفراد، بدلا من قصره علي جورج اسحق، او ان يكون شغله لمدة ستة شهور فقط، بعد ان تبين ان المذكور بأدائه لا يلبي طموحات حركة لها مطالب ضخمة، فضلا عن استخدامه للمنصب في المشاركة في فعاليات تتعارض مع أهدافها، وتسيء إليها!.

جورج اسحق قد يصلح لأن يكون قياديا بحزب معارض، يري نفسه بحكم الدستور انه جزء من النظام، لكن حركة مثل كفاية تخبط رأسها في الحائط، فإن الأمر لا يبدو مقبولا، ولا يعزز من اختياره إلا انه مسيحي، وهو ربما نفس الأمر الذي علي أساسه تم اختياره عضوا قياديا بحزب العمل (لم يكن فاعلا بالمناسبة)، وذلك في إطار عملية المزايدة من حزب يرفع شعارات إسلامية، وأيضا للرد علي كيد البابا شنوده، الذي قيل انه نصح رعاياه بعدم انتخاب مرشحي الحزب في الانتخابات والنقابات، وجورج مسيحيا كاثوليكيا، لكي يكون الرد أكثر بلاغة!.

عندما تم اعتقال عادل حسين الأمين العام لحزب العمل، رحمه الله، نظمت نقابة الصحفيين المصرية اعتصاما تضامنا معه بحكم كونه عضوا فيها، وقد وقع الاختيار علي المرحوم موسي جندي الصحفي بالأهرام رئيسا لهذا الاعتصام، وتم الاختيار علي أساس الديانة، ولم يتم لأي حيثيات أخري، كان يملك منها الكثير، فهو صحفي مناضل كان يخوض حربا ضروسا ضد إبراهيم نافع رئيس مؤسسة الأهرام السابق، علي أرضية مهنية، ولم يقف احد بجانبه، وقد حوصر، من كل الصحف، ولما فاض الكيل بنافع قرر منعه من دخول المؤسسة، ولم يقل احد: بم، ومات الرجل كمدا، فلم يكن فساد إبراهيم نافع مفاجأة كما يشيع البعض الآن!.

بعد الاعتصام بشهور دخل موسي جندي انتخابات نقابة الصحفيين، وقال لي زميلنا احمد إسماعيل بجريدة الأهالي عليك ان تقف مع عمك موسي وقلت ضاحكا سأقف معه من باب الوحدة الوطنية، وضحك موسي جندي ساخرا، كمن نجح في خداعنا، واخبرني احمد إسماعيل بأنه مسلم، ولم اصدق، واخرج موسي بطاقته لأجد في خانة الديانة: مسلم. بعد ذلك بسنوات ذهبت لأداء واجب العزاء في الفقيد، وكان معي الفنان سمير الاسكندراني، بدار المناسبات بمسجد أسد بن الفرات بالدقي، وهناك وقف من تم تعريفهم لنا بأنهم إخوته، وشاهدنا الصلبان مرسومة علي أيديهم، واندهش الاسكندراني وسألني: موسي كان مسلما أم مسيحياً، وقلت له مأخوذا بما رأيت: لا اعرف، ثم استدركت: ولكننا في مسجد، وهذا قرآن يُتلي، ولم يسكت الفنان المذكور إلا عندما استدعي ابنه وسأله هذا السؤال وكان ان قال لنا ان والده كان مسيحيا وأسلم، فعل هذا بالطبع قبل ان يكون إسلام مسيحي خطبا جللا يستدعي ان يهتز العرش البابوي له، ومبررا لأن يغضب الأقباط علي الدولة، ومدعاة لأن يتدخل الكونجرس في شؤوننا الداخلية!.

ما علينا، فحركة كفاية سياسية، يسيطر عليها اليسار، وبالتالي هي ليست بحاجة إلي ان تزايد بديانة جورج اسحق، لكن من الواضح ان النشأة الأولي في بيت الاخواني المفصول أبو العلا ماضي، هي سبب هذه الورطة، وأبو العلا عندما أراد ان ينشأ حزبه ضم عددا من الأقباط إليه وتفاخر بذلك، وعندما أرادت أجهزة الأمن ان تعطيه كتفا معتبرا ضغطت عليهم حتي ينسحبوا، وعلي الرغم من ان انسحابهم لا يترتب عليه اثرا قانونيا، تماما مثل وجودهم، فإن الأمر، لأنه مزايدة سياسية، فقد دعا عددا من المسيحيين ليقفوا معه أمام محكمة الأحزاب ويعلنوا انضمامهم للحزب، وكان من بينهم جورج اسحق!.

ومن الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها كفاية، وأدت الي شيخوختها قبل الأوان، ومن ثم وفاتها بعد ذلك، ان أصحابها رتبوا أجندتهم علي ان النظام المصري منته، والمراقب غير مدقق لابد وان يسلم بهذا في العام الماضي، والأمر مختلف هذا العام، ولذا فان البعض اعتبروا وجودهم فيها سيمكنهم من حجز موقع في نظام قادم، من خلال المشاركة في كفاية ، وفي فعاليتها، ولهذا شاهدنا فيها، من كان من المستحيل ان ينضموا لحركة تواجه النظام نفسه، وبعضهم لا يجرؤ علي الاقتراب من الرحاب الطاهرة لمسؤول في قامة الرائد متقاعد صفوت الشريف!.

لكن الأيام أثبتت ان نظام مبارك ليس علي النحو الذي خيل لهم ولنا، لمجرد ان شعر الرئيس بدوخة قبل عامين في مجلس الشعب، ولمجرد ان سافر للخارج لإجراء عملية، والآن عندما نشاهده فنحن في مواجهة رجل لم يتجاوز الخمسين من عمره، فضلا عن ان الضغوط الأجنبية التي كان يبني البعض عليها آمالا عريضة، قد توقفت، فالأخت كونداليزا بعد ان رأت الإسلاميين هم الذين سيفوزون في ظل الاحتكام للديمقراطية قالت: بناقص، ولهذا فقد سحب أصحاب الأموال كفاية الي قصورهم، وتحولت الي حركة للعلاقات العامة، تمكن جورج اسحق من الارتماء في احضان الرجل القوي في لجنة السياسات والوزير السابق، علي الدين هلال، علي النحو الذي نشرته صحيفة المصري اليوم ، فضلا عن ان صفة الموقع القيادي في كفاية له وقعه عند كاميرات الفضائيات، لكن الواقع يقول ان كفاية انتهت وانها جسد بلا روح، وان الجسد بحاجة الي شحنه الي مقابر العائلة.

شيعوا أختكم في الله كفاية رحم الله موتاكم!.