د. فيصل القاسم


اعترفت الإدارة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر laquo;بعظمة لسانهاraquo; بأن دعمها للأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية في العالم العربي، على مدى أكثر من ستين عاماً، مسؤول إلى حد كبير عما تصفه بظاهرة quot;الإرهابquot; التي تجتاح العالم، والتي كانت أحداث سبتمبر نتيجة مباشرة لها. وقد كرر الرئيس الأمريكي وطاقم إدارته مشكورين ذلك الاعتراف المر أكثر من مرة في خطاباتهم، مما أكسب هذا الندم وquot;التوبةquot; الأمريكية ثناء كبيراً في الشارع العربي. وبناء على هذا الاكتشاف الأمريكي المتأخر تعهد البيت الأبيض بإزالة أسباب quot;الإرهابquot; في المنطقة العربية، وذلك عن طريق كنس الطغاة والمستبدين، ونشر الديمقراطية، وتخليص العرب من آفة الشمولية والطغيان. وقد ظن الشعب العربي أنه مقبل على عهد جديد تسوده الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الصالح، ليس لأن أمريكا تريد الاعتذار إلى الشعوب العربية التي عانت من الدعم والاحتضان الأمريكيين للأنظمة التسلطية، بل لأن الأمريكيين حصدوا، في عقر دارهم، ما زرعته أياديهم من طغيان واستبداد في منطقتنا العربية، حسب اعترافهم.

لكن المذهل في الأمر أن واشنطن عادت وانقلبت على تعهداتها باجتثاث الاستبداد الذي اعتبرته المسؤول عن quot;الإرهابquot; في الشرق الأوسط والعالم، بل إنها أعادت تأهيل أنظمة طغيانية شمولية ثورجية من الطراز الأول(برأي أمريكا سابقاً) كنا نظن أن مصيرها السحق والمحق إلى غير رجعة. وعلى ضوء هذا التراجع الأمريكي الفاضح عن مكافحة الاستبداد في الوطن العربي، يتساءل المراقبون: هل quot;الإرهابيونquot; العرب والمسلمون(نتاج الاستبداد) هم الذين خططوا ونفذوا الاعتداء على أمريكا كما أوهمونا؟ أم تم تلبيسهم التهمة لغاية في نفس يعقوب وذريته؟ هل كان الاستبداد مسؤولاً فعلاً عن quot;الإرهابquot; الذي ضرب أمريكا عام ألفين، على اعتبار أن quot;الإرهابيينquot; أرادوا أن ينتقموا من المستبدين العرب المحليين ورعاتهم الأمريكيين؟ لماذا تراجعت واشنطن عن اقتلاع الاستبداد كما تعهدت، إذا كان الأمر كذلك فعلاً؟ هل يُعقل أن يتم دفن هذه quot;الحقيقةquot; المخيفة والخطيرة بهذه السرعة وهذه الخفة؟

هل كان الإرهاب، حسب تعريفه الأمريكي، مجرد شماعة للاستعمار الأنجلوساكسوني الجديد للمنطقة العربية؟ لماذا عادت الإدارة الأمريكية للاستثمار في الأنظمة العربية الاستبدادية التي اتهمتها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بتفريخ الإرهابيين والمتطرفين؟ لماذا راح البيت الأبيض يعمل مجدداً على تعويم من حمــّلهم، بعد أحداث واشنطن ونيويورك، مسؤولية انتاج quot;الإرهابquot; والإرهابيين الذين روّعوا الشعب الأمريكي في الشهر التاسع من عام ألفين؟ ألم يخبرنا الأمريكيون وقتها بأن quot;الإرهابquot; بات يشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي الأمريكي، ولا بد من القضاء على مسبباته مرة وإلى الأبد؟ لماذا لم يتم القضاء على مسبباته؟ هل الأنظمة التي اتهمتها واشنطن بالمسؤولية عن تفشي quot;الإرهابquot; أهم لها من الأمن القومي الأمريكي كي تعيد تأهيلها واحتضانها وتجميلها؟ كيف يمكن للرئيس الأمريكي أن يبرر أمام شعبه تعويمه لتلك الأنظمة العربية التي اتهمها في الماضي القريب بقتل أكثر من ثلاثة آلاف من الأمريكيين الأبرياء وتهديم أهم معلمين تجاريين في أمريكا؟أسئلة محيرة فعلاً؟

هل غفر الأمريكيون للبلاد التي خرج منها الانتحاريون الذين فجّروا برجي التجارة الدوليين في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية،حسب الرواية الأمريكية؟ على ما يبدو أن العم سام لعق جروحه ولحس تعهداته بشكل سافر لأسباب لا يعلمها إلا الله والمحافظون الجدد.

سبحان مغيــّر الأحوال، فقد بدّل الأمريكيون تسمياتهم لمنتجي quot;الإرهابquot; ومتعهديه، فتحول هؤلاء على حين غرة من مستبدين مفرّخين للعنف والذباحين إلى quot;معتدلين بنائينquot; كما وصفتهم وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس للمنطقة في آخر جولة لها. قد يبرر البعض للأمريكيين هذا التعويم الجديد لرعاة التطرف وتجميل صورتهم بمسميات محببة، بأنهم أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الحملة الأمريكية لمكافحة quot;الإرهابquot;، بعد أن غيروا جلودهم ومناهجهم وجففوا منابع المتطرفين وسخرّوا مواردهم الهائلة في خدمة المشاريع الأمريكية على حساب المشاريع الوطنية. وهذا صحيح. لكن هل غدوا ديمقراطيين منتجين لمواطنين صالحين كارهين للتطرف والمتطرفين حسب التصنيف الأمريكي؟ هل تخلصوا من استبدادهم وطغيانهم الذي أنتج quot;الإرهاب والإرهابيينquot; في المقام الأول؟ أم أن التربة التي أنتجت quot;الجهاديينquot; الذين يستهدفون المصالح الأمريكية في الداخل والخارج تزداد خصوبة لنفس الأسباب التي حددتها واشنطن كموّلد للتطرف والعنف والإرهاب، ألا وهي طبعاً الاستبداد ومشتقاته؟ مَن، من الآن فصاعداً، سيلوم quot;المتشددينquot;، الأبناء الشرعيين للانظمة التسلطية والاستبدادية، إذا ما تمادوا في تطرفهم وquot;إرهابهمquot;؟ هل يُعقل أن واشنطن تدعم المداجن ثم تتصدى للدواجن؟ شيء غريب فعلاً!

يبدو أن أمريكا quot;جاءت لتكحلها فعمتهاquot;، على الأقل من وجهة نظر المغفلين والمساكين من العرب الذين صدقوا الوعود الأمريكية، فبدلاً من معالجة الظروف التي تتسبب في تصاعد العنف والتطرف ضد الأمريكيين وأزلامهم في المنطقة العربية، وتنغص على الشعوب حياتها وتحولها إلى جحيم استبدادي مستديم، راحت واشنطن تستثمر في الاستبداد وquot;الإرهابquot; من جديد، على مبدأ: quot;حن الحديد على حالوquot;.

لايبدو أن هناك استثماراً أمريكياً رابحاً ومثمراً واستراتيجياً ٍأكثر من الاستثمار في الطغاة والمستبدين... وquot;الإرهابيينquot;!! ولتذهب الديمقراطية والديمقراطيون العرب ليس في داهية واحدة، بل في ستين! ولا أدري ما هو رأي الليبراليين العرب الجدد الميامين في عودة أمريكا إلى تجارتها السابقة في الطواغيت والقروسطيين الذين سيتم تسويقهم من الآن فصاعداً كمعتدلين وواقعيين. أرجوكم أفيدونا، فقد تشابه علينا البقر.. والسعادين!