كريستيان دوفور - لوفيغارو


ممّا لا شكّ فيه أنّ الحتميّة في السياسة ليست مطلقة لكن من المقلق أنّ تاريخ فرنسا يشهد منذ أكثر من أربعمئة عام، أزمات متعاظمة كلّ ثلاثة أرباع القرن تلامس صلب هويّة البلاد. تدفع مؤشّرات إلى التفكير في أنّ هذه الدينامية صحيحة ولو جزئياً على الأقلّ. ونظراً إلى خطورة الأزمة الأخيرة ndash; الانهيار أمام ألمانيا النازية ndash; لا بدّ لنا من أن نقلق من الأزمة المقبلة التي قد تحدث قريباً إذا أخذنا عام 1940 معياراً زمنياً يحدّد تاريخ الأزمة الأخيرة.

يمكننا إذاً أن نصف الدينامية الفرنسية على الشكل الآتي: تسود فترة من الروتين المحافظ لعقود عدّة ينمو فيها بالنسبة إلى عدد من المواطنين فنّ عيش مريح مستند إلى تصوّر محض فرنسي عن النظام والانسجام والتوازن بين النضوج الجماعي والنضوج الفردي. ثم تقع الأزمة ndash; وتكون حادّة وعنيفة. وتولّد انفصالاً عن الوضع السابق تنجم عنه خسارة للطاقة الجماعية المتجذّرة في الماضي.
تكرُّر هذه العمليّة هو من الأمور التي تفسّر نزعة الانحطاط في التاريخ الفرنسي. بعد ملامسة قعر الهاوية، ينتهي كلّ شيء، حتّى الآن، بقفزة مدهشة بقدر ما هي غير منتظرة تمهّد لاستعادة التوازن ولروتين جديد ينقل فنّ العيش على الطريقة الفرنسية إلى مزيد من المواطنين. تتميّز هذه الدينامية بحاجة ماسّة إلى العقلانيّة على الصعيد الرسمي وكذلك بصعوبة تحمّل الغموض والالتباس اللذين يرافقان المراحل الانتقالية التدريجية.

في مجتمع يصعب فيه تغيير المعايير والسلطة ndash; المركزية جداً ndash; هذه الدينامية تَكسِر وتُكسَر على السواء في عمليّة التغيير. تكمن قوّتها في قدرتها الاستثنائية على أن تحشد على المستوى الجماعي والفردي، مثالاً أعلى انتقل من عصر إلى آخر، إنّه هذا الزخم الفرنسي الذي تشكّل عناصره السياسية والجمالية والمعنويّة أساس حالات المعافاة الكبرى التي راهنّا عليها. في نهاية القرون الوسطى، تجسّد ذلك في نضال فلاّحة فرنسية شابّة، جان دارك، نجحت في quot;دفع الإنكليز إلى خارج فرنساquot;. وفي العصر الحديث، النضال المنفرد والملهَم المدهش الذي خاضه الجنرال ديغول هو الذي أنقذ الكرامة وأعاد للبلاد مكانتها الدولية.

نستطيع أن نستشفّ آثار هذه الديناميّة منذ القرن السادس عشر مع الحروب الدينية (1560-1598) ثم في القرن السابع عشر مع حرب الفروند (1648-1652): أعقبت هاتين المرحلتين المضطربتين معافاة مدهشة نعرفها جميعنا مع هنري الرابع والكاردينال ريشوليو في المرحلة الأولى وملك الشمس الشاب في المرحلة الثانية. بعد ستّين عاماً، انطبعت نهاية حكم لويس الرابع عشر (1709-1715) بأزمة كبيرة ndash; مجاعة، اجتياح البلاد ndash; ما قوّض الأسس العميقة للبلاد إلاّ أنّه لم يحل دون ظهور عصر الأنوار لاحقاً. وبعد ستّين عاماً أخرى، وإذ أعقبت التوقّف الحادّ للثورة الفرنسية
الملحمة النابولونية والإخصاب

السياسي لأوروبا (1789-1815)، أصبحت الدينامية واضحة.

بعد ثمانين عاماً ndash; تصبح الفترة التي تمتدّ بين أزمة وأخرى مهمّة ndash; مهّد انهيار الأمبراطورية النابولونية الثانية عام 1870 في وجه بروسيا، والحرب الأهلية التي تلته الطريق أمام نشوء الجمهورية الثالثة التي ترسّخت بينما كانت الامبراطورية الاستعمارية تزول وتتواصل السيطرة الثقافية لأوروبا. أخيراً، وبعد سبعين عاماً، طبع الانهيار أمام ألمانيا النازية في حزيران 1940 انحساراً سياسياً وثقافياً ولغوياً جديداً، وقد استقام هذا الوضع على الصعيد السياسي عام 1958 مع الجمهورية الديغولية الخامسة.
عام 2006، هل أصبح التوتّر قوياً جداً بين فنّ عيش تهدّده العولمة والمثل العليا التي تبقى في أساس الهويّة الفرنسية؟ هل كانت معارضة الحرب في العراق بمثابة خاتمة إبداع سياسي لم تفلح في أن تخفي، في إطار تبرير ذي طبيعة عموميّة، محافظية هويّة قومية دخلت مرحلة تقوقع دفاعي؟ قد تنجم الأزمة المقبلة عن تصلّب مجتمع يُربِكه نموذجه، ومرهون إلى حدّ كبير بالتطبيق الحرفي للمعايير وغير قادر على التكيّف مع السياق العالمي الجديد. لقد ظهر منذ عشرين عاماً إجماع فرنسيّ بنوع خاص ضدّ العولمة، ويتجلّى في ملفّات غريبة فعلاً بالنسبة إلى غير الفرنسيين مثل قانون ال35 ساعة أو الحرب على quot;عقد الوظيفة الأولىquot;.

ظهر عمق المأزق، أثناء استفتاء أيار 2005، في الهوّة المقلقة بين مجموع النخب التي أوصت بالتصويت quot;نعمquot; والشعب الذي صرخ عالياً quot;لاquot;. كما أنّ التفاوت بين المساواة الشكليّة النابعة من القيم الجمهورية والتمييز الشديد الذي يتعرّض له في الواقع الفرنسيون المسلمون يُعرِّض البعض إلى الغرق في الأصوليّة الدينية أو إلى الانجراف إلى العنف المديني، في سياق عالمي يحفّز الإرهاب.
عسى ألاّ يكتفي قائد البلاد المقبل بالتحدّث عن الإصلاحات بل ينتقل إلى تطبيقها، وفي شكل خاص، ينجح في ذلك، فلا يكون تورغو هذا الزمن، ذلك الوزير ذو الكفاية الاستثنائية في بداية عهد لويس الرابع عشر الذي فشلت محاولته الإصلاحية ما جلب شقاء للبلاد. يكمن التحدّي الفرنسي اليوم في إنجاح الإصلاحات التي لا يستطيع البلد الاستغناء عنها كي يتفادى، إن لم يكن الأزمة في ذاتها ndash; المحتومة بلا شكّ لا بل الضرورية ndash; فعلى الأقلّ الانقطاع الحادّ جداً عن الماضي الذي يقود إلى التخلّي بطريقة غير نافعة عن بعض عناصره الصحيحة. يجب أن يكون القائد الأوّل المقبل للبلاد مدير أزمات استثنائياً قادراً على جعل فرنسا تفيد من القدرة الكبيرة على النهوض التي أظهرتها مرّات عدّة في الماضي.