تركي الحمد


كان القول المأثور في أميركا هو أن الديموقراطيين يشعلون الحروب، والجمهوريين يطفئونها. ففي كل حروب القرن العشرين التي خاضتها أميركا خارج أراضيها، كان الرئيس في بداية الحرب ديموقراطياً. في الحرب العالمية الأولى كان ودرو ويلسون. وفي الحرب العالمية الثانية كان فرانكلين روزافلت. وفي الحرب الكورية كان هاري ترومان. وفي حرب فيتنام كان جون كينيدي. لم يتغير الوضع إلا مع إدارة بوش الجمهورية والمحافظين الجدد، حيث خاضت الولايات المتحدة حرب أفغانستان والعراق مع رئيس جمهوري لأول مرة في تاريخها المعاصر. اليوم، يطرح الديموقراطيون أنفسهم على أنهم الأمل، والمنقذ من نتائج مغامرات بوش الخارجية، والمخلص من ايديولوجيا اليمين المتطرف، في حملة انتخابية قدموا فيها الكثير من الوعود التي كان من أهمها، إن لم يكن أهمها، انسحاباً أميركياً من العراق، أو تغييراً لسياسة بوش الخارجية سواء في العراق أو غيره في أسوأ الأحوال، لعلمهم أن قضية العراق هي أكثر ما يهم الناخب الأميركي اليوم. وها هم الديموقراطيون يكتسحون الكونغرس بمجلسيه، ويشكلون الأكثرية في مجلس الشيوخ ومجلس النواب، فهل فعلاً ستنقلب السياسة الخارجية الأميركية، أم أن المسألة كانت مجرد وعود انتخابية لا علاقة لها بالممارسة الفعلية، وخاصة فيما يتعلق بالعراق وإيران ومنطقة الشرق الأوسط إجمالاً؟

حقيقة يمكن القول إن المسألة بين هذا وذاك. فمن ناحية، فإن بعض الوعود الانتخابية ستجد طريقها إلى التنفيذ، كما أنه سيكون هنالك نوع من التغيير، كما أن السياسة الخارجية الأميركية ستشهد بعض التغيير مع أكثرية ديموقراطية في المجلسين، ولكنه يبقى تغيراً وليس انقلاباً جذرياً، وبالتالي فإن أكثر الوعود الانتخابية لن يجد طريقه إلى أرض الواقع. فرغم اكتساح الديموقراطيين لمجلسي الكونغرس، إلا أن الإدارة ما زالت جمهورية، وبالتالي فإن الديموقراطيين قد يمارسون ضغطاً شديداً على الرئيس وإدارته، إلا أنهم لن يستطيعوا تكبيله تماماً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه في بلد مثل الولايات المتحدة، قائم على حكم المؤسسات بشكل رئيس، فإن السياسة المتبعة، الداخلي منها والخارجي، تتغير في حدود معينة، ولكنها لا تشهد انقلاباً جذرياً مهما تغير الأشخاص، ويكون الاختلاف بين الأحزاب المتنافسة قائماً على السبل والوسائل المحققة للهدف، لا على ذات الهدف، الذي هو المصلحة العليا للدولة. وعلى ذلك فإن السياسة الخارجية الأميركية لن تتغير كثيراً بشكل عام، اللهم في تفصيلات تتعلق بكيفية تحقيق هذا الهدف أو ذاك، أما ذات الأهداف فلا يختلف عليها جمهوري أو ديموقراطي.

ففي النزاع مع إيران مثلاً، يتفق الديموقراطيون والجمهوريين على أن إيران تشكل تهديداً لأمن إسرائيل، الذي يشكل حجراً ثابتاً في سياسة أميركا الخارجية، وتهديداً لاستقرار وأمن دول الجوار، وخاصة العراق والسعودية ودول الخليج العربية، الذي هو جزء من أمن الولايات المتحدة الاقتصادي وغير الاقتصادي. الاختلاف بين الطرفين يكمن في كيفية التعامل مع المسألة الإيرانية لا في ذات المسألة. فقد يحبذ بوش وإدارته اليمينية الحل العسكري مثلاً، فيما يرى الديموقراطيون أن الحصار الاقتصادي الدولي من خلال منظمة الأمم المتحدة، أجدى وأقل خطورة في تحقيق الهدف من الحل العسكري المفترض الذي قد يجر الدولة الأميركية إلى مستنقع فيتنام آخر، أو مستنقع عراقي جديد. فنعم للمجابهة مع إيران ولجم طموحاتها الإقليمية، وهذا ما يتفق عليه الطرفان، ولكن ليس من الضرورة ألا يكون هناك إلا حل واحد أو سياسة واحدة في التعامل مع مثل هذه المسألة.

وبالنسبة للعراق، الذي هو بيت القصيد، فإن بعض الفائزين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، كان قد وعد بالعمل على انسحاب فوري من العراق، وهذا مجرد وعد انتخابي لا يمكن تحقيقه في نظري. فلو أن هذه الانتخابات قد جرت قبل دخول القوات الأميركية إلى العراق، وكانت القضية المطروحة هي كيفية التعامل مع نظام صدام حسين، فربما كان هناك خلاف بين الطرفين حول الحل الأكثر فاعلية، والأقل مخاطرة في نفس الوقت، هل يكون هذا الحل عسكرياً أو غير ذلك. أما وقد تم تنفيذ الحل العسكري، وأصبحت أميركا في داخل العراق، فإن القضية أصبحت واقعاً من الواجب التعامل معه كما هو، ولم يعد خياراً ضمن خيارات. في هذه الحالة، فإن الديموقراطيين لن يستطيعوا الخروج من العراق حتى لو أرادوا، أو كانت وعودهم الانتخابية تبشر بذلك، لأن أمن الدولة ومصلحتها العليا على المحك في هذه الحالة. كلا الطرفين، الجمهوري والديموقراطي، يعلم أنه بانسحاب فوري من العراق، وتركه على الحالة التي هو فيها الآن، فإن أوراقاً كثيرة سوف تختلط. فلن يكون بالإمكان الوقوف في وجه إيران ومشاريعها في المنطقة، ولن يكون بالإمكان ضمان استمرار تدفق نفط المنطقة إلى أميركا والعالم، كما أن العراق في هذه الحالة سيتحول إلى بؤرة نشاط إرهابي يهدد أمن واستقرار المنطقة، وكذلك أميركا نفسها، ولن تبقى أحداث سبتمبر فريدة في التاريخ الأميركي.

ما سيتغير بالنسبة للسياسة الأميركية في العراق هو كيفية إدارة الأزمة، وخاصة إذا اكتمل حكم الديموقراطيين بمجيء رئيس ديموقراطي بعد سنتين من اليوم.

من الواضح جداً أن سياسة بوش كانت سبباً من أسباب الوضع الراهن في العراق. هذه السياسة التي أفرغت البلد من مؤسساته السياسية من دون بديل واضح وفعال، هي التي أدت إلى الفراغ السياسي الذي خلق البيئة المناسبة لانفجار الطائفية والقبلية والإقليمية المكبوتة. ويبدو أن بوش ومستشاريه من المسيحيين الجدد، كانوا يعتقدون أنه بمجرد إسقاط صدام حسين ونظامه، فإن الأمور سوف تدير نفسها بنفسها، أو أنه لكل حادث حديث، غير آخذين في الاعتبار التركيبة الاجتماعية العراقية، ولا التجربة السياسية للعراق منذ انقلاب 14 يوليو عام 1958. والحقيقة أن السياسة الخارجية الأميركية بشكل عام، وسواء كنا نتحدث عن إدارة جمهورية أو إدارة ديموقراطية، كانت دائماً قصيرة النظر فيما يتعلق بالفعل ورد الفعل، على عكس السياسة الخارجية البريطانية العريقة مثلاً، التي كانت تحسب ردات الفعل، وتضع الحلول المناسبة لها، قبل أن تبدأ الفعل.

كيف سيتعامل الديموقراطيين مع الحالة العراقية؟ هذا ما لا ندريه، ولكن حتماً ستكون هنالك سياسات جديدة، ولكن في ظل البقاء الأميركي في العراق، وهذا كل ما ندريه إذا كان التحليل صحيحاً.