الإثنين: 2006.11.13





شعلان شريف ـ اذاعة هولندا العالمية

منذ ثلاثة أعوام ونصف والعراق يشهد أحداثاً عنيفة، جعلته المكان الأخطر في العالم. وجاء تقرير مجلة لينسنت الطبية العالمية ليؤكد بوضوح حجم العنف المتصاعد في هذا البلد؛ حيث قدّر التقرير عدد القتلى في العراق، منذ بدء الحرب التي قادتها أميركا في مارس 2003، برقم مرعب (655) ألف قتيل.

ورغم أن الرقم الذي أورده التقرير قابل للنقاش، بل من المرجح أنه مبالغ فيه كثيراً؛ حيث بنيت النتائج على أساس استطلاع لعدد الأسر التي فقدت بعض أفرادها في هذه الفترة، وهو ما يجعل الدراسة محلًّا للتشكيك بدقتها وعلميتها، لكن هذا الرقم المخيف ـ مهما كان مبالغاً فيه ـ يعطي تصوراً عن الحجم الهائل للعنف المنفلت من عقاله.

تتعدد أسباب العنف في العراق، وتتعدد أشكاله منها؛ تمرد ضد القوات الأجنبية المحتلة، وتمرد ضد الحكومة المتهمة بالتعاون مع الاحتلال، وإرهاب أعمى تمارسه منظمات إرهابية عالمية، أسست لها قواعد راسخة في العراق المحتل، ونزاعات دموية بين الطائفتين المسلمتين السنة والشيعة؛ حيث تسعى كل منهما إلى فرض أجندة سياسية تثير المخاوف لدى الطائفة الأخرى، ونزاعات عنيفة بين الميليشيات التابعة للأحزاب السياسية حتى داخل الطائفة الواحدة، وتوترات عرقية في المدن المختلطة.

عنف ذو طابع ديني متطرف، يستهدف الأقليات غير المسلمة، والمسلمين غير المتدينين. وهو عنف يصعب تصنيفه: إن كان سياسياً أم دينيًّا خالصاً. والأقليات غير المسلمة لا سيما المسيحيون والصابئة هم ضحايا هذا العنف؛ حيث تعرضت أماكن عبادتهم لهجمات عنيفة في بغداد والبصرة، كما تلقى بعضهم رسائل تهديد تطلب منهم اعتناق الإسلام أو الرحيل عن البلاد. ويشهد العراق حالياً ما يشبه تفريغاً له من أقلياته غير المسلمة، وهي أقليات تستوطن العراق منذ أقدم العصور؛ حيث يهاجر أبناؤها الآن بشكل متواصل إلى خارج البلاد.

ولا يقتصر العنف الديني على غير المسلمين، بل إن كثيراً من المسلمين يعانون من الضغوط الكثيرة التي تمارسها الجماعات الأصولية: الشيعية منها والسنية؛ لإجبارهم على إتباع فهم متطرف للإسلام. وتتخذ هذه الضغوطات أحياناً أشكالا عنيفة تصل إلى القتل أحياناً، لاسيما ما يتعرض له باعة الخمور، مثلاً، وكذلك أصحاب وصاحبات صالونات التجميل والحلاقة، وباعة أقراص الـ سي دي، ومحلات التسجيلات الموسيقية.

وإضافة إلى كلّ هذا هناك العنف ذو الطابع الإجرامي الخالص، أي العنف البعيد عن الصراعات السياسية والدينية، الذي تمارسه عصابات تستغل الانفلات الأمني لغرض جمع الأموال عبر الاختطاف، وقطع الطرق، والتهديد والتهريب، والتجارة بالجنس والمخدرات.

يشير مواطنون عراقيون ومسئولون حكوميون إلى أن أحد منابع هذا العنف، متمثلاً في آلاف المجرمين الذين أطلق النظام السابق سراحهم من السجون قبل الحرب بستة أشهر. ويرى كثير من العراقيين أنها كانت خطوة مدروسة من قبل النظام، الذي عرف بلجوئه دائماً إلى أساليب مبتكرة ولا أخلاقية لمواجهة خصومه. وينسب هؤلاء العراقيون إلى رئيس ذلك النظام ـ الدكتاتور السابق quot;صدّام حسينquot; ـ قوله مرةً: إنه لن يتخلى عن العراق إلا تراباً بلا بشر. من المؤكد أن لهذه الفئة من المجرمين الذين أطلق سراحهم دورا في أعمال العنف، لا سيما الأعمال ذات الطابع الإجرامي الخالص، كما أنه ليس من المستبعد أن يكون إطلاق سراحهم والحرب على الأبواب خطوة مقصودة بالفعل كرصيد احتياطي يراهن الدكتاتور السابق على دور مستقبلي له في منع استقرار البلاد في حالة وقوعها تحت الاحتلال. لكن واقع العنف الإجرامي في العراقي أوسع من أن يفسر بتلك الخطوة؛ فالأشخاص المستعدون للانخراط في عصابات إجرامية كانوا موجودين داخل السجون وخارجها، والانفلات الأمني ـ الذي كان السمة المهيمنة لعراق ما بعد quot;صدّامquot; ـ لا بدّ أن يشجع الكثيرين على ممارسة الجريمة.

في الأشهر الأولى ـ التي أعقبت سقوط بغداد، وهروب قيادتها السابقة ـ كان العنف بالدرجة الأولى عنفاً ذا طابع إجرامي؛ عمليات النهب واسعة النطاق، وكانت مزيجاً من عمل غوغائي quot;بريءquot;، وعمل إجرامي منظم، وتوجه فيه أصابع الاتهام إلى تنسيق بين عصابات الجريمة ومسئولين سابقين في حزب البعث، لا سيما في أعمال النهب التي كانت تحتاج إلى معرفة جيدة بأماكن تخزين الأموال والمواد النفيسة في المباني الحكومية. ثم أعقب ذلك انتشار ظاهرة قطع الطرق، لا سيما الطرق التي يستخدمها القادمون من خارج البلاد؛ حيث يتم إيقاف العربات وسلب ممتلكات ركابها. وقد تمكنت القوات الأجنبية، ومن يعمل معها من العراقيين من القضاء على جزء كبير من تلك الجرائم قبل أن تبدأ تلك القوات في مواجهة أنواع أخرى من العنف، اعتبرتها أكثر خطورة، وهي أعمال العنف ذات الطابع السياسي والديني والإرهابي. ومنذ ذلك الحين قل اهتمام القوات الأجنبية والحكومات العراقية المتعاقبة بمكافحة الجريمة؛ بسبب الانشغال بمكافحة الإرهاب.

الجريمة المنظمة، والعنف غير السياسي؛ يستهدف الجميع بالطبع، لكن هناك فئات معينة تتعرض للاستهداف أكثر من غيرها. يشكل الأثرياء هدفاً لجرائم الاختطاف؛ بهدف الحصول على الفدية، ولجرائم السرقة والسطو المسلح التي كثيراً ما يرافقها عنف وحشي. وقد شهدت السنوات الأخيرة هروباً متزايداً لأصحاب الثروات إلى خارج العراق، وتوجه بعضهم إلى إقليم كردستان، الذي يقع خارج سيطرة الحكومة المركزية منذ خمسة عشر عاماً، ويتمتع بحكم ذاتي واسع، وأوضاع أمنية مستقرة إلى حد كبير قياساً بالأجزاء الأخرى من البلاد. أما الأشخاص الذين يمتلكون ثروة صغيرة أو كبيرة، ولم يغادروا البلاد فإنهم يحاولون بكل الوسائل إخفاء أي مظهر من مظاهر الغنى كالسيارات الجديدة مثلاً. لكن هذا لم يمنع من تعرض الكثيرين منهم لجرائم الاختطاف بهدف الفدية أو السطو المسلح. وتتبع عصابات الخطف أساليب متطورة في عملها؛ حيث توزع المهام بين أفرادها؛ لمراقبة الضحية أولا، وجمع المعلومات عنه وعن أسرته، ثم اختيار الوقت والمكان المناسب لتنفيذ عملية الاختطاف، لتبدأ بعدها المفاوضات حول quot;سعرquot; الضحية.

النساء يشكلن أهدافاً لأشكال مختلفة من العنف، من العنف المنزلي الذي ازدادت وتيرته بسبب الانفلات الأمني من جهة، وزيادة الهيمنة الذكورية في المجتمع من جهة أخرى، إلى العنف الإجرامي المنظم، متمثلاً في جرائم الاغتصاب والخطف، وكذلك ازدياد ظاهرة تجارة النساء. وقد أصدرت منظمات نسوية عراقية تقارير متكررة عن الحجم الكبير لهذه الظواهر. وقد ذكر أحدث هذه التقارير عن دور عصابات تجارة الرقيق الأبيض العابرة للحدود، وحدد التقرير دولة الإمارات العربية المتحدة كمركز لعمل تلك العصابات؛ حيث يتم استدراج فتيات شابات من العراق بوظائف مغرية، أو بعروض زواج زائفة، وحين تصل الضحية إلى دبي أو الشارقة يتم إجبارها على العمل في الدعارة السرية. سوريا تشكل أيضا محطة رئيسية للمتاجرة بالفتيات العراقيات، ويذكر التقرير ذاته أن أعداد الضحايا اللائي يتم استدراجهن إلى سوريا يصعب تحديده؛ بسبب سهولة التنقل بين العراق وجارته الشمالية الغربية. ولا تكتفي هذه العصابات باستدراج الفتيات، بل تلجأ أيضاً إلى خطف الفتيات، لا سيما الصغيرات منهن، لبيعهن في ما بعد لشبكات الدعارة العابرة للحدود.

في ظلّ العنف الطائفي والسياسي، والعمليات الإرهابية، يقل الاهتمام ـ سواء من قبل الجهات الأمنية، أو من قبل وسائل الإعلام، أو المنظمات الحقوقية ـ بظواهر العنف الأخرى التي لا تقل خطورة عن الإرهاب.

ومع ازدياد اللجوء إلى العنف من قبل الأطراف السياسية المتصارعة، فقد بدأ التداخل بين ظاهرتي العنف السياسي منه والإجرامي، وهذا التداخل حالة طبيعية في كل البلدان التي تشهد حروباً داخلية؛ فالأطراف السياسية المتصارعة تلجأ إلى التعاون مع عصابات الجريمة كمصدر للتمويل، بينما تلجأ عصابات الجريمة إلى التحالف مع طرف سياسي ما؛ لتأمين الحماية في وجه أجهزة الدولة، أو للتمكن من اختراق أجهزة الدولة ذاتها.

وتتوارد أخبار كثيرة تؤكد أن هذا هو الحال في العراق؛ ففي الجنوب العراقي تشير تقارير كثيرة إلى تداخل عمل الأحزاب الشيعية المتنافسة على السلطة مع عمل العصابات الناشطة في مجال تهريب المخدرات، وأعمال التهريب الأخرى. بينما نرى في بغداد والمحافظات الغربية ـ التي تعدّ معقلاً لتنظيمات سياسية ودينية، يمارس بعضها الإرهاب ـ تداخلاً مع عمل عصابات الخطف، ويصعب أحياناً التمييز بين الاختطاف السياسي، والخطف الإجرامي لغرض الحصول على المال؛ حيث يحدث أحياناً أن تقوم العصابات بـquot;بيعquot; ضحاياها إلى المنظمات الإرهابية؛ مقابل مبلغ معين، وتستخدم هذه المنظمات المخطوفين لغرض الابتزاز السياسي. حتى الآن تظل معلوماتنا ضئيلة جداً وعمومية حول آليات هذا التداخل بين العنف السياسي، والجريمة المنظمة. لكن المتوقع أن التداخل بينهما كبير، وربما يسير في طريقه ليصبح ترابطاً راسخا؛ مما يجعل من غير الممكن الفصل بين الظاهرتين، أو التفكير في مكافحة إحداهما بمعزل عن الأخرى.