للأب والدين دور أساسي في تحديد الموقف السياسي للجيل الجديد
السياسة والانتماء الحزبي أصبحا من صلب اهتمامات المراهقين ايضاً وليس الكبار فقط. نسمعهم يناقشون في السياسة، يجاهرون بآرائهم، يحللون، ويتكلمون على أخطاء القادة السياسيين أو صوابيتهم بحسب أهوائهم وانتماءاتهم الحزبية. فهل من تأثير للأهل على الأهواء السياسية؟ وما الدور الذي يمكن أن يمارسه الأهل في هذا المجال؟
منذ شهور قليلة، قدّمت منى الباشا أطروحتها للدكتوراه بعنوان: quot;دور الأهل في تحديد التفضيل الحزبي، لدى المراهقين اللبنانيين بين عمر 14 و16 عاماًquot;، وخصوصاً ان هذا الموضوع يقع في صلب اهتمامات علم السياسة، وهو يشكّل اليوم محور الدراسات التي تجريها الأمم المتحدة في الدول التي هي في طور النموّ، ولا سيما تلك التي تدور حول سلوك الفرد السياسي ومشاركته في الحياة السياسية من طريق الأحزاب التي اعتبرت، منذ أن تطوّر مفهوم الديموقراطيّة، ركناً أساسياً فيها واحدى أبرز آليات المشاركَة.
وأجابت الدراسة عن أسئلة أساسيّة وحيويّة لمجتمعنا السياسي تمحورت حول: دور الأهل في عملية تحديد الخيارات الحزبيّة لأولادهم، مفهوم التوارث وما قد يحمل معه من تكريس لتقليد أو حثّ على تغيير، أثر طبيعة العلاقات داخل الأسرة على عمليّة نقل الثقافة السياسيّة عموماً والموقف من الأحزاب التي هي احدى آليات المشاركة العاكسة هذه الثقافة.
توارث التفضيل الحزبي
لقد شكّل موضوع التوارث الحزبي عند المراهقين مادة أساسية لأبحاث علماء الاجتماع السياسي، نظراً الى أهميّة هذا السلوك الاجتماعي والسياسي على الحياة السياسيّة وتطّورها ونوعية المشاركة فيها، اضافة الى قدرته على اظهار ثقافة البلد السياسيّة وخصوصيته. وتتجلّى أهميته أيضاً في تطرّقه الى الفرد - المواطن ودوره في الحياة السياسيّة، وتفعيله والقاء الضوء على بعض العوامل التي يجب أخذها في الاعتبار لخلق ثقافة مشاركة بين الشباب، وتفعيل آليات الممارسة الديموقراطيّة وفي طليعتها الأحزاب. لقد قاربت الباشا موضوع توارث التفضيل الحزبي عبر معالجة عناصر الثقافة اللبنانية عموماً ومظاهرها والثقافة السياسيّة خصوصاً، مظهرة في الوقت عينه الترابط العضوي بينها وبين الأحزاب تحديداً، لناحية تشكيلها وهيكليتها وآلية عملها، وأثر هذه العوامل على توزيعها على الخريطة السياسية.
وقد عكفت هذه الأطروحة على البحث في العناصر المكوّنة للثقافة السياسيّة اللبنانية، فلاحظت أن للعوامل الجغرافيّة والتاريخيّة والانتماء الديني دوراً بارزاً في تكوين ملامح الثقافة السياسيّة، حيث خزّنت الذاكرة الجماعيّة المشتركة وتلك الخاصة بكل طائفة خلاصة تجاربها. فامتزجت بتلك العناصر وتُرجمت سلوكاً ومواقف اجتماعيّة وسياسيّة لا نزال نشاهدها حتى يومنا هذا.
كما حاولت هذه الدراسة أيضاً تحليل مظاهر الثقافة السياسيّة، وأثر عناصرها والعوامل الفاعلة فيها على تكوين الأفكار والتصورات السياسيّة وتجلياتها في سلوكهم الاجتماعي والسياسي كالموقف من النظام وآلياته تحديداً الأحزاب، ومدى استعداد الأفراد للانتساب الى صفوفها واعتناق مبادئها. والواقع، ان هؤلاء ليسوا الا أفراداً ينتمون الى أسر يعيشون في كنفها ويتأثرون بالآراء والقيم والأفكار التي تحملها وتنقلها من جيل الى آخر. وتحتلّ الأسرة مكانة مهمّة في وجدان الفرد اللبناني، فهي قيمة أخلاقيّة ذات أبعاد سياسيّة، اذ تتحوّل العائلة في فترة الانتخابات مثلاً ركناً أساسياً فيها وتصبح منطلقاً لاحتساب الأصوات، ويتحوّل الصراع من السياسي الى العائلي. وقد اكتسبت الأسرة هذه الصفات بفعل التاريخ وطبيعة المجتمع، حيث ساهم الحكم العثماني فيما بعد الانتداب بمنح الطائفة صورة الحامية والحافظة، ما عزّز مكانة الأسرة اجتماعياً وسياسياً. هذه العوامل مجتمعة طبعت المجتمع اللبناني بميزات قد لا نجدها في مجتمعات أخرى، برزت عبر تقسيماته المزدوجة أي تقسيمه الأفقي (الطبقات الاجتماعية) والعمودي (الطوائف)، ما اكسب دراسة quot;توارث التفضيل الحزبي في لبنان quot; أهميّة خاصة.
نتائج الدراسة
لكن هل يتأثّر الأولاد فعلاً بأهلهم؟ وكيف يتجلّى هذا التأثير؟ وما العوامل التي تؤّدي الى حصول التوارث؟
بينّت الدراسة وجود دور للأهل في نقل خياراتهم الحزبيّة لأولادهم. وقد ظهر تأثّرهم بآراء أهلهم واضحاً، مجسدين بذلك الثقافة اللبنانية عموماً والسياسيّة خصوصاً. وبحسب الباشا ان الدراسات الحقليّة أظهرت وجوب توافر شروط لتحقيق التوارث. واذا اعتبر انسجام الأفكار بين الأب والأم شرطاً أساسياً لتحقيق التوارث، فقد كان هذا الشرط شبه غائب في الأسرة اللبنانية، حيث انعكس توزيع أدوار على موقع كل من الوالدين في المجال السياسي. فاحتلّ الأب مكانة رئيسيّة في المجال السياسي (مثلان من اجوبة الاولاد عن مناقشتهم مواضيع عامة مع اهلهم للدلالة على اهمية توزيع الادوار في لبنان). وجاءت النسب عن مناقشة الاولاد مع اهلهم في مواضيع عامة على احتمال quot;دائماًquot; كالآتي: أتناقش مع والدي دائماً في السياسة العامة 21,5% مقابل أتناقش مع والدتي دائماً في السياسة العامة 7,7%. وعن المناقشة في موضوع النتائج المدرسيّة على احتمال quot;دائماًquot;، جاءت النتائج كالآتي: أتناقش مع والدتي دائماً في النتائج المدرسيّة 40,4% مقابل أتناقش مع والدي دائماً في النتائج المدرسيّة 20,4%.
ومع أن الأم اللبنانية وقفت من المجال السياسي موقفاً حيادياً، فقد كانت تداعياته ايجابية، اذ لم يحُل عدم تعاطيها في المواضيع السياسيّة دون اكتساب الأولاد الأفكار السياسيّة والحزبيّة.
من جهة ثانية، تبيّن ان التفاهم الثقافي يمهّد للتفاهم السياسي، فهو يساهم في اعلان الأفكار السياسيّة وشرحها، كما يتجلّى عبر الاهتمام بالسياسة. أمّا في لبنان فقد ظهر أنه غير مرتبط بالاهتمام، اذ بلغت عينة الأهل درجة عالية من الاهتمام بالسياسة بغضّ النظر عن تقارب أو تفاوت في المستويات الثقافيّة.
الاهتمام المشترك بالسياسة
يشكّل الاهتمام بالسياسة مقياساً لدرجة الوعي لدى الفرد، ويقاس عبر متابعة الأخبار التلفزيونية وقراءة الصحف. وقد لاحظنا في لبنان أن 88,4% من الأزواج يتابعون الأخبار يومياً، مقابل 44,2% من الزوجات. بالنسبة الى قراءة الصحف لاحظنا أن 48,5% من اللبنانيين يقرأون الصحف. وهذه النسبة متدنيّة قياساً على الدول الغربيّة.
كما ان الاهتمام بالسياسة ينعكس على الأولاد، فتبيّن أن 52,7% من المراهقين يهتمون بالسياسة توزعوا كالآتي: 69,8% من الذكور و35,7% من الاناث. ونلاحظ عبر النسب، التي تعتبر مؤشراً الى درجة التسيس عموماً، أن الذكور أكثر اهتماماً بالسياسة من الاناث. فالمراهقون أكثر تسيساً من المراهقات وقد يعود السبب الى تأثرهن بأمهاتهن.
ويشمل الاهتمام بالسياسة المشاركة في الحياة السياسيّة، وتتجلّى عبر المشاركة في الانتخابات. وأظهرت النتائج أن 75% من الأزواج شاركوا في انتخابات عام 2000 مقابل 66,9% من الزوجات، غير أن مشاركة المرأة لم تؤثر في درجة اهتمامها بالسياسة، بدليل غياب رأيها في منح صفة للأحزاب، واختيار الحزب المفضّل، وضرورة وجود الأحزاب في الحياة السياسيّة، اذ ظهر تفاوت كبير بينها وبين الرجل على هذا السؤال، فاعتبر 55,9% من الرجال أنها ضرورية، مقابل 1,49% من النساء؟!.
كما يتبلور الاهتمام بالسياسة عبر الالتزام الحزبي، فقد بيّنت الدراسة أن نسبة الرجال المنتسبين الى أحزاب 11,8% والنساء 6,2%، مما يؤكد اهتمام الرجال المرتفع بالسياسة قياساً على المرأة التي تحصر اهتماماتها بالدور المعدّ لها اجتماعياً.
وارتفعت النسبة عند المراهقين الى 19,2% وتوزّعت كالآتي: 29,5% للذكور و9,40% للإناث. اما بالنسبة الى الميل الى حزب سياسي، فقد ظهر تقارب في النسب بين الأهل (34,40%) وأولادهم (40,8%). واللافت هنا موقف الأولاد الإيجابي من الأحزاب، ولا سيما موقف الذكور. وهو وليد الإهتمام بالسياسة ومستوى الأهليّة السياسيّة التي كانت مرتفعة عند الذكور ومتدنيّة نسبياً عند الإناث. ويتجلّى الاهتمام بالسياسة أيضاً عبر اعلان الاهل عن أفكارهم وسلوكهم ومواقفهم السياسية. علماً أن الأهل نادراً ما يتحدثون في المواضيع السياسيّة أمام أولادهم أو معهم، فهم لا يتقبلون أن يتحدّث ولدهم بالسياسة قبل سن العشرين (47,20%)، مع أن الأولاد اعتبروا أن عمرهم مناسب للتحدّث في السياسة (47,7%).
المناخ المنزلي والأهليّة السياسيّة
دلّت الدراسات على وجود علاقة وثيقة بين المناخ المنزلي والأجواء التي يوفرها لبناء الشخصية للولد الاجتماعيّة فالحوار والنقاش والإنفتاح عناصر أساسيّة لبناء شخصيّة قويّة ومستقّلة ومنفتحة. وبالتالي ستساهم هذه الأجواء في تعزيز الأهلية السياسية للولد وتكوين شخصيّته كمواطن فاعل. وتقول الباشا: quot;لاحظنا أن الاهل متساهلون مع أولادهم في المسائل الاجتماعيّة، لكنهم أبدوا تحفظات كثيرة وصلت الى حد الرفض أحياناً في المسائل السياسيّة (التحدّث بالسياسة والانتساب الى الأحزاب)، ما يدفعنا الى الاعتقاد أن المجتمع اللبناني لا يزال تقليدياً على هذا المستوى، فلا يزال الأهل يعتقدون أن السياسة محصورة بالناضجين وحكر عليهم فقط. وهذه نظرية كلاسيكية تخطتها الدول الحديثة منذ منتصف القرن الماضي. ورغم وجود تفاوت في مستويات الاهتمام والانسجام داخل الأسرة والذي انعكس بنسب متفاوتة على الاهلية السياسية للاولاد، فإن هذا لم يحل دون حصول النقل داخلهاquot;.
كيف تجلّى التوارث في لبنان داخل الأسرة اللبنانية؟ أظهرت الدراسة وجود توارث للتفضيل الحزبي داخل الأسرة اللبنانية. وإرتكازاً الشروط التي عرضت تمّ التمكن من تصنيفها بـ :
- التوارث المنسجم: حيث تطابق وضع الأسر مع الشروط التي وضعتها نظريات التوارث. وقد لوحظت لدى أربعة أحزاب (إعتبرتها الباشا عقائديّة) وهي: الحزب القومي السوري الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني وحزب الله وحزب الطاشناق.
تطابق أجوبة الوالدين وأولادهما عن اختيار الحزب كأحد مظاهر التوارث المنسجم
(جدول رقم 1)
درجة توارث الخيارات الحزبية لدى الذكور والإناث
(جدول رقم 2)
ونستخلص من قراءة الجدولين 1 و2 وجود علاقة قوية جداً بين كل من الأب والأم من جهة الولد (ذكر/أنثى) من جهة أخرى. وقد جاءت نتيجة إختبار (Chi-2) هنا (0,000) تؤكّد وجود التطابق في الأجوبة بين الأهل والولد حول الحزب المختار (الولد والأهل إختاروا الحزب عينه) وجاءت نتيجة إختبار (V de Cramer) بين 84، 0 و9،0 وهذا مؤشّر الى قوة العلاقة بين أجوبتهم، وبالتالي، فهو تأكيد لحصول توارث للخيار الحزبي في هذه الأسر. وفي إطار التوارث المنسجم، ظهر توارث آحادي في بعض الأسر، حيث تّم نقل الأفكار السياسيّة أو التفضيل الحزبي من الأب أو الأم في إتجاه الولد.
مقارنة النسب عن الميل إلى حزب بين الأولاد وأحد الوالدين
(جدول رقم 3)
الملاحظ في جدول رقم 3 شبه غياب للفتيات عن هذا المحور، وهو عائد الى تدنّي نسبة مشاركتهن في السؤال عن الميل الى حزب ما، حيث لم تتعّد نسبة العشرة في المئة من النسبة الإجمالية، وهي متدنية جداً قياساً إلى إقبال الذكور على اختيار الأحزاب. يشار الى أن غياب النتائج على متغيّر إناث/أب بالنسبة الى حزب الكتائب، قد يعني أحاديّة التوارث داخل الأسرة، أي أنه تمّ بواسطة الأم. وفي هذه الحالة تكون من القليلات اللواتي يتمتعّن بمستوى أهليّة مرتفع، وهذا يشكّل استثناء، أو أن الوالدة أجابت منفردة عن أسئلة الاستمارة.
- التوارث غير المنسجم: وقد ظهر في الأسر التي غاب فيها الانسجام الفكري بين الأب والأم، وكان هناك تفاوت في المستوى الثقافي بينهما، وفي درجة التسيس.
في الخلاصة، تقول الباشا ان الدراسة بيّنت وجود توارث للتفضيل الحزبي لدى الأسر اللبنانية. quot;وهنا يقترب المجتمع اللبناني من بقية المجتمعات، وخصوصاً لجهة آليات التوارث ما يمكننا من تعميمها. في المقابل، فإن محتوى التوارث يختلف من مجتمع الى آخر، وهذا طبيعي إذ لكل مجتمع خصوصيته. كما اكدت الدراسة خصوصية المجتمع اللبناني، الذي تجلّى عبر إختيار الولد المختلف عن اختيار والده في ظلّ غياب رأي الأم وذلك خلافاً للدول الغربيّة، حيث تفوّقت على زوجها لجهة جذب أولادها نحو ميلها السياسي. وبيّنت تدنّي نسبة الاهتمام السياسي للمرأة مما يؤدّي الى تهميش دورها في الحياة السياسيّة ويضعف حضورها على الساحة السياسية. فانعكس هذا الواقع على الفتيات اللواتي غبن عن اختيار حزبهن المفضلquot;. وأخيراً، كان للدين تأثير كبير في توارث التفضيل الحزبي، حيث اختار الأولاد المسيحيون أحزاباً ذات أكثريّة مسيحية، والأولاد المسلمون أحزاباً ذات أكثريّة إسلاميّة.
التعليقات