نورمان سولومون

شنّ الإستابلشمنت الإعلامي الأميركي هجوماً واسع النطاق ضدّ خيار سحب القوّات الأميركية من العراق.
في الهجوم الإعلامي الأخير، الوسائل الإعلامية اليمينية مثل quot;فوكس نيوزquot; وصفحة الافتتاحيّات في quot;وول ستريت جورنالquot; ثانويّة. فإطلاق النار المكثّف يصدر الآن عن الأمتار المربّعة الأكثر قيمةً في العقارات الإعلامية في الولايات المتّحدة ndash; الصفحة الأولى في quot;نيويورك تايمزquot;.
يحمل الوضع الحالي أجوبة مروِّعة لكلّ من يتساءل كيف استمرّت حرب فيتنام لسنوات في حين كانت استطلاعات الرأي تُظهر أنّ معظم الأميركيين ضدّها. الآن، عقب الانتخابات النصفية التي تُعتبَر على نطاق واسع أنّها ردّ فعل توبيخي على حرب العراق، تمارس مؤسّسات إعلامية نافذة تشويشاً محموماً ضدّ انسحاب القوّات الأميركية.
تحت العنوان الرئيس quot;الخروج من العراق الآن؟ ليس بهذه السرعة، يقول الخبراءquot; أبرزت الصفحة الأولى في quot;نيويورك تايمزquot; في 15 تشرين الثاني quot;تحليلاً عسكرياًquot; بقلم مايكل غوردون. أورد المقال أنّه في حين يقول بعض الديموقراطيين في الكونغرس إنّ انسحاب القوّات الأميركية quot;يجب أن يبدأ في غضون فترة أربعة إلى ستّة أشهرquot;، quot;يعارض عدد من الضبّاط والخبراء العسكريين والجنرالات السابقين هذه الحجّة، وبينهم أشخاص كانون من أشدّ المنتقدين لسياسات إدارة بوش في العراقquot;.

ظهر المراسل غوردون بعد بضع ساعات في برنامج أندرسون كوبر على محطّة quot;سي إن إنquot; متظاهراً بأنّه ناقد واثق من نفسه حيث أعلن أنّ الانسحاب quot;ليس واقعياً بكلّ بساطةquot;. وتابع غوردون الذي بدا وكأنّه ناطق باسم البنتاغون، كلامه بعبارات واثقة قائلاً إنّه يعارض الانسحاب.

لو ظهر مراسل للشؤون العسكرية في quot;نيويورك تايمزquot; على شاشة التلفزيون للدفاع عن انسحاب القوّات الأميركية بالجزم نفسه الذي عارض فيه غوردون هذا الانسحاب في حديثه على شاشة quot;سي إن إنquot; في 15 تشرين الثاني، لسارع المسؤولون في quot;نيويورك تايمزquot; إلى تأنيبه ndash; وربما طرده من العمل. لكنّ قسم الأخبار في الصحيفة يشجّع بحماسة التقارير التي تتبنّى الآراء العالمية الأساسية لدولة الأمن القومي وتروِّجها.

هكذا ولهذا السبب رحّبت الصفحة الأولى في quot;نيويورك تايمزquot; كثيراً بكتابات جوديث ميلر أثناء الاستعداد لحرب العراق. هكذا أيضاً ولهذا ترحّب quot;نيويورك تايمزquot; الآن كثيراً بكتابات مايكل غوردون.
في هذه المرحلة، لا معنى عملياً لتصنيفات مثل quot;نقّاد حادّي اللهجة لسياسات إدارة بوش في العراقquot;. السواد الأعظم من quot;النقّاد الحادّي اللهجةquot; المفضّلين لدى وسائل الإعلام يعارضون الحدّ من التورّط الأميركي في المجزرة العراقية، وبعضهم يدعون الآن علناً إلى زيادة أعداد الجنود الأميركيين الذين يحتلّون البلاد.

هذه الأيام، غالباً ما تبدو التغطية الإعلامية للسياسة الأميركية في العراق مجرّد تكرار للطريقة التي عرضت بها وسائل الإعلام الأساسية الخيارات المتاحة أمام واشنطن أثناء الحرب في فيتنام. حوّل الإذعان الروتيني للمفاهيم السائدة لدى الأوساط السياسية الرسمية عدداً كبيراً من الصحافيين البارزين مشاركين في إنتاج تتمّة لفيلم quot;يوم المرموط الأميركيquot; Groundhog Day يصرّون فيها على ضرورة استمرار المجهود الحربي الأميركي.

منذ سقوط صدّام، قارن عدد لا يحصى من الأخبار والتعليقات الكارثة المستمرّة في العراق بحرب فيتنام. لكن نادراً ما ألقت تلك المقارنات الضوء على نقاط التشابه الأكثر إثارة للقلق بين تغطية وسائل الإعلام الأميركية للحربَين.
سواء في عام 1968 أو 2006، بذل الجزء الأكبر من الجسم الصحافي في واشنطن جهوداً حثيثة لوصف انسحاب القوّات الأميركية بغير العمليّ وغير الواقعي.
خلافاً للأساطير عن التغطية الإعلامية لحرب فيتنام، تأخّرت الصحافة الأميركية كثيراً، بعكس المشاعر الشعبية المناهضة للحرب، في التفكير جدّياً في انسحاب أميركي من فيتنام. استمرّ هذا التأخير سنوات عدّة ndash; وأدّى إلى وفاة عشرات آلاف الأميركيين الإضافيين وربّما مليون فيتنامي إضافي.

استنتجت دراسة أجرتها quot;بوسطن غلوبquot; في شباط 1968، أنّ أياً من الصحف اليومية الكبرى في الولايات المتّحدة لم تنشر افتتاحية تدعو إلى انسحاب القوّات الأميركية من فيتنام. اليوم ndash; وعلى الرغم من النزعة المناهضة للحرب في استطلاعات الرأي العام والانتخابات الأخيرة ndash; المطالبة بانسحاب أميركي من العراق شحيحة بالقدر نفسه في أوساط نخب وسائل الإعلام العصريّة.
التملّص الإعلامي السائد أشبه برفس عبوة معدنيّة على الطريق. الكلام الحذر عن نقاط التشابه والتعامل بحزم مع حكومة بغداد (كما مع حكومة سايغون) مؤشّر عن خطاب في وسائل الإعلام الوطنية يتجنّب الحوار بدلاً من إحيائه.
يكرّر صحافيون كثر المفهوم الذي يعتبر أنّ خيار الانسحاب ليس خياراً حقيقياً على الإطلاق. ويقال لنا إنّ الديموقراطيين الذين سيديرون الكونغرس قريباً لن يجرؤوا ndash; ويجب ألاّ يجرؤوا ndash; على الوصول إلى هذا الحدّ إذا كانوا يعرفون ما هي مصلحتهم.

ما توحي به هذه التغطية الإعلامية هو أنّ الشرعية الحقيقية لصنع القرارات الحربية الأميركية هي في يد الرئيس وليس الكونغرس. عندما أتأمّل في ذلك الافتراض، يقودني تفكيري إلى حلقة من برنامج quot;واجه الأمّةquot; Face the Nation على محطّة quot;سي بي إسquot; تعود إلى 42 عاماً.
كان مقدّم البرنامج عام 1964 الصحافي الذي يحظى بتقدير على نطاق واسع بيتر ليساغور، وقد قال لضيفه quot;حضرة السناتور، يحمّل الدستور رئيس الولايات المتّحدة دون سواه مسوؤلية إدارة السياسة الخارجيةquot;. فقاطعه السناتور واين مورس بصوته الذي يشبه صوت حفيف ورق الزجاج quot;أنت مخطئ جداً. الكلام القانوني الذي تفوّهت به للتو أكبر خطأ على الإطلاق. القول بأنّ السياسة الخارجية هي ملك الرئيس مغالطة. هذا هراءquot;.

بدا ليساغور وكأنّه يوبّخه عندما سأله quot;ملك مَن هي إذاً، حضرة السناتور؟quot; فبادر مورس إلى الردّ على الفور quot;إنّها ملك الشعب الأميركي. أطلب أن يجري إطلاع الشعب الأميركي على وقائع السياسة الخارجيةquot;. أصرّ الصحافي quot;تعرف، حضرة السناتور، أنّ الشعب الأميركي لا يستطيع إعداد سياسة خارجية وتنفيذهاquot;. فردّ مورس بسخط quot;لمَ تقول هذا؟... لديّ ثقة تامّة في قدرة الشعب الأميركي على تتبّع الوقائع إذا أطلعتهم عليها. والتهمة التي أوجّهها لحكومتي هي أنّنا لا نُطلع الشعب الأميركي على الوقائعquot;.

كان مورس، السناتور الرفيع المستوى من أوريغون، متحمّساً للدستور الأميركي والقانون الدولي على السواء. وفي حين رفض المفهوم السائد بأنّ السياسة الخارجية ملك الرئيس، تحدّث بعبارات واضحة عن حرب فيتنام. في جلسة استماع أقامتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في 27 شباط 1968، قال مورس quot;لا أريد أن تتلطّخ يداي بدماء هذه الحربquot;. وأضاف في ما يشبه النبوءة quot;في رأيي، سنصبح مذنبين بأنّنا نشكّل التهديد الأكبر على السلام في العالم. إنّه واقع بشع ونحن الأميركيين لا نحبّ أن نواجههquot;.