الجمعة01 ديسمبر2006

انتفاضة الاستقلال فجّرها توسل الإجرام لترسيخ الوصاية
والمحاولة الانقلابية تسقط المحظورات المانعة لقيام الدولة

فارس خشّان

لم تصل الأزمة في لبنان الى أفق مسدود.للمرة الثانية في أقل من سنتين تنفتح الأفق وتصبح البلاد مؤهلة لمواجهة مشاكلها الحقيقية. بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري سقطت quot;المحرمات السياديةquot;، مما مكّن الشعب اللبناني من إخراج جيش النظام السوري من لبنان. لم يقرر بشار الاسد أن يعيد الوطن الى أبنائه إلا لأنه خاف من أن يحوّل نفسه الى صدام حسين آخر. واليوم، تسنح الفرصة مجددا أمام اللبنانيين لإسقاط quot;المحرمات الوطنيةquot;، مما يمكنهم من مخاطبة quot;حزب اللهquot; بالحقائق الواضحة، بعيدا من التلميح هنا والتورية هناك، لأن هذا الحزب من حيث يدرك حوّل نفسه الى قوة جاذبة للتدمير والى مجموعة حامية للقتلة والى فئة مانعة للاستقرار.
لا فرق بين انتفاضة الاستقلال في بدايات العام 2005 وبين انقلاب نهايات العام 2006 حتى لو اختلفت هوية القوة التي قررت النزول الى الشارع. هناك بادر النظام السوري إلى القبض على لبنان بالاغتيالات والقمع والمطاردات وتسييد أتفه البشر. حاول بذلك ان يخفي الضوء الذي لاح من آخر النفق. هنا بادر quot;حزب اللهquot; للقبض على لبنان بالاستفادة من الاغتيالات المتلاحقة وبالحيلولة دون تشكيل المحكمة الدولية وبتوسل سلاحه ليلعب مع العدو لعبة تدمير الثقة بالوطن وبارتهان الطائفة الشيعية ليؤزم واقع الشراكة اللبنانية وبتزوير المعطى الدستوري ليسقط الشرعية الكاملة للحكومة.
مع quot;حزب اللهquot;، بتركيبته الذهنية والعسكرية والاقليمية الحالية، لم يعد ممكنا بناء وطن معافى. معه يمكن الإبقاء على لبنان المأزوم، ولبنان quot;المتراسquot; ولبنان الموصى عليه ولبنان المهدورة طاقاته ولبنان المكبوتة تطلعاته ولبنان المقتولة قياداته ولبنان المهجر شبابه ولبنان المرتعبة عائلاته ولبنان المنفصمة وظائف مؤسساته.
quot;حزب اللهquot; إلى الشارع، فليكن طالما أنه سبق له ووضع الوطن على الحضيض. سوف يمنع السياح من المجيء الى لبنان خلال quot;الصيف الصغيرquot;، حسناً فالبلاد دفعت غاليا ثمن الكارثة التي ألّمت بالصيف الكبير. سوف يحول دون ذهاب الطلاب الى مدارسهم والى جامعاتهم، ما المانع طالما أنه أعاد مخططات بناء مستقبلهم الى نقطة الصفر، لا بل تحت الصفر.


فخ القراءة الدولية
كل ذلك لن يعطيه النتائج التي يرجوها، بل سوف يرتد عليه وعلى القوى الاقليمية المرتبط بها سلبا. quot;حزب اللهquot; ومن وراءه وقعوا، مرة جديدة في فخ القراءات الدولية الخاطئة. عندما استعجل السيد حسن نصرالله التغيير السلطوي بالتهديد، كان يقرأ سطحيا ما تتم كتابته عن لجنة جيمس بايكر ـ لي هاملتون. حسب أن إدارة جورج بوش سوف تركع على ابواب طهران ودمشق وتدخل معهما في مقايضة كبرى من أثمانها التخلي عن لبنان لسوريا وايران من خلال حلفائهما. لم ينتبه ان لبايكر وظيفة أميركية داخلية منطلقة من ارتباطاته بعائلة بوش ويهدف، أوّلا وأخيراً الى خلق توازن فعّال مع القوى الأميركية التي تكمن لبوش الإبن على المفرق. لم يقرأ نصرالله توصيات تقرير لجنة التحقيق الاميركية الخاصة بهجمات 11 ايلول 2001، ولم يتوقف عند شروط تطبيع علاقات الحد الأدنى مع ليبيا. تجاوز كليا أن إدارة جورج بوش، عندما تضطر الى إعادة حساباتها في الشرق الأوسط تلجأ الى الأنظمة الصديقة وليس الى الأنظمة المعادية التي لا تعيش إلا على الديكتاتورية هنا وعلى الإرهاب هناك، وتفتح حوارا بواسطة هذه الأنظمة مع المقاتل الأصلي في العراق وليس مع المتاجر بهذا المقاتل.
قد يكون quot;حزب اللهquot; والقوى الاقليمية الداعمة له قد وعوا هذه الحقائق الدولية، متأخرين. يمكن ان يكونوا قد تنبهوا الى أن التشدد الايراني في لبنان سينسحب تشدداً دولياً في التعاطي مع طهران، وأن العمل المنهجي السوري لضرب الاستقرار في لبنان ستكون ارتداداته سريعة على النظام السوري بالذات، ولذلك سعوا الى إيجاد مخرج من خلال الدفع في اتجاه إحياء سيناريو ما بعد اغتيال النائب الشهيد جبران تويني باغتيال الوزير الشهيد بيار الجميل. يومها، أدمى تفجير تويني قلب العالم وتحرّكت المملكة العربية السعودية بمبادرة من أجل وضع حد للسلوكية السورية الاغتيالية. إعتذرت قوى 14 آذار عن إقدامها على إعلان رفضها للمبادرة التي لم تعمد الرياض الى تجديدها.
قبل اغتيال الوزير الجميل، وبعيد تهديد نصرالله، صدرت مناشدات عدة من الفريق السوري في البلاد الى القيادة السعودية للعودة الى موقع المبادرة. وبادر السفير السعودي في لبنان عبد العزيز خوجة بأن دعا القوى التي أعلنت موافقتها على تشكيل المحكمة الدولية الى ترجمة ذلك عمليا لتُحل بعد ذلك كل المشاكل. تجاهل الفريق السوري هذه المبادرة الدبلوماسية. وقعت جريمة اغتيال الجميل. أعطيت quot;مهلة تعزيةquot; ولكن لم تصدر خلالها أي مبادرة خارجية لتدفع قوى 14 آذارالتي أظهرت حزما في مواجهة القتلة، الى التراجع.
لم ينتج اغتيال الجميل مفاعيله، فبدا مأزق التهديد بالشارع ضاغطا.تمّ تسريب مواعيد وهمية وتمّ تحريك بعض عناصر الفريق السوري من أجل تحريك المخارج السياسية.فشل كل ذلك في جر quot;الضحاياquot; الى نقطة التراجع عن الوطن. علق quot;حزب اللهquot; في مأزق النزول الى الشارع.
الشارع مأزق لأسباب كثيرة ومنها الآتي:
أوّلاً، بيّن اللبنانيون على اختلاف انتماءاتهم الثقافية والمهنية والروحية معارضتهم لهذا الخيار، واعتبروه اعتداء محليا على المصالح اللبنانية سيكمل على ما تبقى من مصالح لم يتمكن منها العدوان الاسرائيلي الأخير.
ثانياً، إن التظاهر لا يكون منتجا لمفاعيله إلا متى كان نتاج رغبة حقيقية لدى اللبنانيين وله عناوين تتصل فعلا بمصالحهم من جهة وبطموحاتهم الوطنية من جهة أخرى. وبهذا المعنى، فإن اللبنانيين على إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري امتنعوا من تلقاء أنفسهم عن الذهاب الى أعمالهم، وكانوا يتحيّنون الفرصة للذهاب ولو لفترة وجيزة الى الضريح والى اعتصامات ساحة الشهداء. وبعد اغتيال الوزير بيار الجميل خلت الطرق تلقائياً واندفعت الناس الى البقاء في المنازل تلقائياً.
ثالثاً، إن شعارات التحرك الشعبي لا قيمة لها في ضمير غالبية اللبنانيين، فالمتحرك تحت اللواءين السوري والايراني لا يحق له ان يعيّر الآخرين بالتحرك تحت اللواء الأميركي، ومن يقبل قوات الامم المتحدة في الجنوب لا يستطيع ان يحرّم على الحكومة التعاطي الايجابي مع المجتمع الدولي، ومن يتجاهل هويات قتلة السياديين لا يستطيع ان يبرر تعقيد تشكيل المحكمة الدولية، ومن يخرج من حكومة كان شريكاً في 99 في المئة من قراراتها لا يستطيع ان يبكي المشاركة التي تخلّى عنها طوعاً، ومن معه رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب والسلاح لا يستطيع ان يدّعي أنه معزول في القرار السياسي.
رابعاً، إن الشارع سوف يفضح حجم القوى التي يغطي quot;حزب اللهquot; الشيعي نفسه بها وطنيا.


مأزق عون وثوب الضحية
وهنا بالتحديد يبرز مأزق العماد ميشال عون الذي يمكن اعتباره الأكثر خوفا من قرار النزول الى الشارع، لأنه يتوجس من إمكان ان يفقد ما تبقى له من تأييد شعبي. فالمسيحيون لا يريدون التظاهر الى جانب quot;حزب اللهquot;، لأن دافعي ثمن المطلب السيادي لن يكونوا وقودا لمطلب إنهاء السيادة، ولأن المتطلعين الى دولة قوية تحميهم لن يكونوا غطاء لدويلة تمعن في منع قيام الدولة، وقسم منهم إن فعل ذلك، مرة كرمى لعيني العماد عون فهو لن يكرر ذلك، مرة أخرى.
ولا يمكن للعماد عون أن يدّعي أنه يريد إشراك المسيحيين في السلطة، من خلال إشراك تياره بصفته صاحب الأكثرية النيابية مسيحيا، لأنه هو من أخرج نفسه من السلطة ولم يقدم أحد على إخراجه.فعل ذلك، عند تشكيل حكومة الرئيس السنيورة، إذ أراد ان يكون شريكا في الثلث المعطل وليس في الحكومة المنتجة، ثم كرر ذلك على طاولة التشاور، إذ رفض ان ينضم الى الحكومة بل كرر رغبته في الاشتراك بالثلث المعطل. لم يكن عون صادقا، عندما قال إنه دعي الى المشاركة بعد خروج الوزراء الشيعة، بل إن العرض قُدم له قبل هذا القرار، وكان يهدف إلى حل أزمة وليس إلى تغطية أزمة.
ولأن عون يعاني مسيحياً، حاول حلفاؤه أن يلقوا عليه مجددا ثوب الضحية.هم من أقحموا اسمه، قبل أقل من ساعة في قضية اغتيال الوزير الشهيد بيار الجميل، وهم من قالوا إنها تهدف الى شق الصف المسيحي باستهداف عون بالتهمة. جلّ ما فعله quot;فريق الشهيدquot; أنه دعا عون الى الخروج من موقع التستير على أدوات سوريا في لبنان. كان اللبنانيون في تلك اللحظة العصيبة ينتظرون منه ان يصرخ في وجه من يتغطى به، ولكنه صمت مستدرجاً غضب من يحق لهم الغضب. وعندما جرت محاولة إقفال هذه الصفحة، أصر عون على إبقائها مفتوحة. ارادها استدراراً لعطف شارع بدأ يتحوّل عنه.
وبالتزامن مع هذا الملف تمّت فبركة ملف آخر سمي زورا ملف تدريب quot;القوات اللبنانيةquot; في بلدة شحتول الكسروانية لاغتيال العماد عون. وعلى الرغم من النفي المتلاحق ثابر تحالف عون ـ quot;حزب اللهquot;على نسج الروايات حوله.
ولكن ذلك ارتد على عون سلبا ايضا للأسباب الآتية:

1 ـ لاحظ المسيحيون ان عون يريد منافسة الشهداء في كل شيء، فهو يريد ان يسرق العاطفة منهم وهو يريد ان تحتل صوره أمكنة بارزة على حساب صورهم، حتى لو كلّف ذلك مشاكل لا تستحقها صورة لشخص لا ينزل دقيقة واحدة عن شاشات التلفزة.
2 ـ ظهر أن همّ عون الوحيد هو استدرار عطف اللبنانيين، عشية النزول الى الشارع، فيما لا يقرأ مطلقا وحدة المسيحيين.
3 ـ بدا عون في صورة quot;المتلطيquot; وليس في صورة صاحب الموقف الحقيقي، فهو بعدما دعا أنصاره الى المشاركة في تشييع الشهيد بيار الجميل، قبل ساعات قليلة على التجمع في ساحة الشهداء، عاد في اليوم التالي متكئا على quot;التزوير الالهيquot; الذي يمارسه تلفزيون quot;حزب اللهquot; وسخر من الجمهور المليوني الذي تجمع في ساحة الشهداء.
4 ـ اكد عون انه quot;فئويquot; في طروحاته، بحيث أنه ولو كان المتدربون في شحتول هم من quot;القوات الللبنانيةquot;وليسوا مرافقي رئيس مجلس ادارة المؤسسة اللبنانية للارسال بيار الضاهر، فلماذا يغذي الحملة على القوات وهو حليف لـquot;حزب اللهquot; الذي لديه مراكز تدريب وكل أنواع الاسلحة الخفيفة والثقيلة ومخازن مهولة من المتفجرات وجيش من المقاتلين.
لكل هذه الاسباب، إن quot;حزب اللهquot;الذي يتهيأ للنزول الى الشارع سوف يصيب حلفاءه بالضرر، سواء كان هذا الحليف تيارا كحالة العماد عون أم دولة كحالة ايران وسوريا، ولكنه بالنتيجة سيسقط عنه كل المقدسات الأمر الذي سيعيده في اللحظة المناسبة الى طاولة الحوار، لمعالجة موضوع اساسي له الأولوية على كل المواضيع الأخرى، إذ كي يسمح له بإبقاء سلاح بين أيديه، وهو صاحب مشروع انقلابي هنا وصاحب صلات تحالفية مع بشار الأسد الذي ثبت بالوجه القاطع انه يخطط لاغتيال مزيد من القيادات اللبنانية متدثرا بتنظيم القاعدة.
وبهذا المعنى، فإن الشارع حتى لو احتله quot;حزب اللهquot;، سيكون مرة جديدة بخدمة قوى الاستقلال.