أمير طاهري
منذ الاطاحة بصدام يحاول أولئك الذين يشعرون بالندم على رحيله لأسباب مختلفة تلميع صورته بعدد من الوسائل. والرئيسي من بين هذه الوسائل تشويه سمعة العراقيين كشعب يتسم بالعنف المتأصل فيه.
ويقال لنا إنه لم يكن صدام حسين هو الذي جعل العراق على ما هو عليه وانما العكس: فالجلاد هو نتاج المجتمع العراقي. وهذه نسخة سياسية من لغز الدجاجة أو البيضة: من جاء أولا ؟ ويجري تجاهل حقيقة انه عبر قرون وعندما توفرت الفرصة خلق العراق ايضا متصوفين وفلاسفة وشعراء ولاهوتيين بل وسياسيين أكفاء. ويموت العراقيون بسبب أعمال العنف كل يوم تقريبا لأنهم يستحقون الموت، كما يقال لنا.
ومن أجل البرهنة على أن العراقيين عاجزون عن العيش معا، ناهيكم من بناء مجتمع مهذب، فمن المهم تصوير العنف الراهن في ذلك البلد باعتباره حربا اهلية لا يستحق اللوم عليها سوى ابناء ذلك البلد المنكوب. وفي الحرب الأهلية ما من تدخل خارجي يمكن أن يكون ذا جدوى.
ومنذ سقوط صدام حسين فإن الادعاء بأن العراق في حالة حرب اهلية يجري التعبير عنه او التخلي عنه كل ثلاثة أو اربعة اشهر في المعدل المتوسط. ففي كل مرة هناك موجة مأساوية استثنائية من أعمال القتل ويظهر اولئك الذين يستبد بهم الحنين الى صدام على شاشات التلفزيون للزعم بأن العراق هو في حالة حرب أهلية، وبالتالي فإن من الأفضل أن يترك الى مصيره. ولا يعد السعار الاعلامي الأسبوع الماضي حول laquo;حرب اهلية في العراقraquo; شيئا جديدا.
وقبل التدقيق في ملاءمة زعم laquo;الحرب الأهليةraquo; دعونا نتعرف على المستفيد من هذا الزعم.
المستفيد الأول هو القاعدة التي يوجد قليل من جهادييها في العراق ممن هم من اصل عراقي. ومن بين المئات من مقاتلي القاعدة ممن قتلوا أو ألقي القبض عليهم في العراق منذ عام 2004 لم يزد عدد العراقيين على 13 شخصا. أما الآخرون فكانوا مما يزيد على 12 من الجنسيات بينها الفرنسية والبريطانية والبلجيكية والإسبانية. والمسؤول عن دعاية القاعدة بشأن العراق على الانترنت هو شاب أميركي لم يسبق له ان زار العراق. ولا يأتي الدعم لاستراتيجية القاعدة في العراق من العراقيين وانما من الاسلاميين واليساريين السابقين من غير العراقيين، كما يعرف كل من يشاهد محطات التلفزيون الفضائية العربية.
ان طرح العنف في العراق باعتباره حربا اهلية يمكّن القاعدة من الحصول على بعض الدعم الشعبي بين العراقيين وبالتالي نوع من الشرعية. وارتباطا بذلك المنطق يمكن ان توصف هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد الولايات المتحدة باعتبارها laquo;حربا أهليةraquo; لأن الأشخاص أنفسهم الذين هاجموا نيويورك وواشنطن هاجموا، أيضا، سامراء ويستهدفون الآن مدينة الصدر.
وتصوير العنف في العراق باعتباره حربا اهلية يفيد ايضا بقايا حاشية صدام. فهو يقدمهم باعتبارهم جانبا واحدا من الصراع الذي يدعي فيه الطرفان بدرجة من الشرعية بفضل القواعد الشعبية المفترضة. غير ان الحقيقة هي ان الصداميين ليست لديهم مثل هذه القاعدة. وحتى الغالبية الساحقة من أعضاء حزب البعث يدركون أن صدام دمر حزبهم بتحويله الى أداة لهيمنته وهيمنة عشيرته التكريتية. وكان القرار الأميركي بحظر حزب البعث قرارا خاطئا وأغضب بشدة كثيرا من البعثيين. غير ان قليلين هم من يحلمون بإعادة عقارب الساعة الى الوراء بإعطاء الحزب والبلد الى صدام وحاشيته.
كما يفيد الزعم بالحرب الأهلية المليشيات المختلفة، التي يتمتع بعضها بغطاء آيديولوجي سياسي، بينما الأخرى ليست سوى عصابات جريمة منظمة، عبر إعطائها دورا لا تستحقه. فبعض المليشيات تجند ويدفع لها من جانب ايران وتتصرف كمرتزقة وليس كمقاتلين في قضية وطنية. وهناك مليشيات هي فرق موت مأجورة لقتل أعضاء طوائف دينية منافسة. ويخشاهم كثير من العراقيين ويقف الجميع ضدهم، وما من أحد يحبهم.
ثمة مستفيد آخر من الحرب الأهلية هم الطائفيون المهوسون الذي سببوا للعراق الكثير من المآسي كلما سنحت لهم الفرصة. الضعف الحالي للحكومة المركزية وغياب الأمن في أجزاء من العراق منح هؤلاء فرصا جديدة لإلحاق الأذى بالآخرين. نفس هذه العناصر تسببت في مآسي الأعوام 1802 و1873 و1920 عندما ادت محاولات تدمير مراقد شيعية الى نزاع ودمار على نطاق واسع.
اما في الغرب، فقد استفادت كلتا مدرستي الاستعمار من مزاعم الحرب الأهلية.
المدرسة الاولى تعتقد ان العراقيين، وكل الدول غير الغربية، عاجزة عن بناء حكومات قائمة على قاعدة شعبية، وان أي تدخل من جانب دولة ديمقراطية أمر محتوم.
المدرسة الثانية، وهي الرائجة الآن، توصلت الى نفس هذه الخلاصة ولكن على أساس آخر. إذ هناك من يرى ان كل بؤس ومآسي الدول غير الغربية ناتج من الاستعمار الغربي والإمبريالية. ومن الناحية الأخرى يقول هؤلاء إن الشعوب غير الغربية تستحق العيش تحت ظل الأنظمة المستبدة لأن الاستبداد يعكس ثقافتهم وحتى أديانهم.
المدرسة الأولى ترى ان الغرب مسؤول عن تنصيب صدام حسين واستمراره في السلطة. وفي نفس الوقت تزعم ان العراقيين يستحقون ان يحكمهم صدام حسين، وان التحالف الذي قادته الولايات المتحدة كان على خطأ في محاولته منحهم فرصة السعي للوصول الى شيء مختلف.
كثير من أنصار نظرية الحرب الأهلية في العراق أتوا بشعار واحد يتلخص في ان laquo;التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة يجب أن يترك العراق وان يتخلى عن النظام الجديد في مواجهة اعدائهraquo;. ولكن المشكلة تكمن في أن غالبية هؤلاء الذين يؤكدون ان العراق في حالة حرب اهلية يفتقرون الى الشجاعة لمواجهة الاسئلة التي تنشأ عن مزاعمهم في هذه القضية.
السؤال الأول: ما هما طرفا هذه الحرب الأهلية ؟ حدّد.
السؤال الثاني: من اجل ماذا يقاتل كل طرف؟ اشرح.
وأخيرا، في حال تحديد طرفي هذه الحرب الأهلية، اين تقف انت؟ وضِّح موقفك.
التاريخ يعج بالحروب الأهلية التي أثرت على الكثير من الدول، من فارس القديمة، عندما نشبت حرب بين الميديين والفرس قبل اكثر من 2500 عام، الى الحرب الأهلية الاسبانية التي استمرت من عام 1936 حتى عام 1939. في كل حالة كان هناك معسكران محددان لكل منهما نفس القوة في بداية النزاع. وفي كل حالة يمكن لكل معسكر ان يدعي لنفسه نوعا من الشرعية قائمة على التأييد الشعبي. وفي كل حالة تختار قوى خارجية وحركات وحتى أفراد الطرف الذي يقفون الى جانبه.
أعلنت شبكة التلفزيون الاميركية laquo;ان بي سيraquo; انها قررت ان العراق في حالة حرب اهلية. يجب على الشبكة الآن ان تتقدم وتقول لمشاهديها من هم طرفا هذه الحرب وماذا يمثلان وما الطرف الذي يجب ان تقف الولايات المتحدة والدول الاخرى الى جانبه.
الحقيقة هي ان العراق الآن ليس في حالة حرب اهلية، لكنه ضحية عدوان خارجي يرافقه عنف طائفي داخلي وتكتيكات ثأر ونشاطات اجرامية. هذا لا يعني ان العراق يمكن ان ينزلق الى حرب اهلية. هناك رؤى متضاربة فيما يتعلق بالعراق الجديد، مثل الرؤى التي أدت الى حروب اهلية، لا سيما في اسبانيا. الآن الغالبية العظمى التي تؤيد هذه الرؤى ووجهات النظر تفضل ان تقاتل من اجل هذه الرؤى ووجهات النظر داخل إطار الدستور العراقي ومؤسساته التي لا تزال هشة.
الخيار في العراق واضح، إن لم يكن سهلا.
مساعدة النظام الدستوري تعمق من جذوره وتقلل خطر الحرب الاهلية لأن كل الرؤى المتنافسة يمكن ان تكون لديها، من الناحية النظرية على الأقل، فرصة كسب التأييد الشعبي.
التخلي عن العراق الجديد قبل ان يتمكن من الدفاع عن نفسه سيؤدي من المؤكد الى حرب اهلية لا وجود لها حتى الآن سوى في خيال شبكة laquo;ان بي سيraquo;.
التعليقات