د. عبدالله المدني


أقدمت باكستان مؤخراً على ما يمكن اعتباره خطوة تاريخية نحو رفع بعض الظلم الواقع على المرأة في هذا البلد المسلم المعروف بتقاليده المحافظة وهيمنة الذكور على مقدراته وشؤونه، لكن الذي عرف أيضاً بتكرر حالات الاعتداء الجنسي على النساء.

فقد مرر مجلسا النواب والشيوخ بالأغلبية مؤخراً مشروع قانون جديد يلغي بموجبه بعض أحكام قانون العقوبات في قضايا الاغتصاب والجرائم الجنسية الذي كان قد أصدره الرئيس الأسبق ضياء الحق في عام 1979 ضمن مشروعه لأسلمة المجتمع وتطبيق أحكام الشريعة. وتكمن أهمية هذه الخطوة في أنها تتيح فرصة أكبر أمام النساء من ضحايا الجرائم الجنسية للحصول على أحكام عادلة ضد من اعتدوا عليهن، دون الحاجة إلى توفر الشرط المتضمن في قوانين الحدود الشرعية السابقة، ألا وهو وجود أربعة شهود عدول ذكور. هذا الشرط الصعب الذي كثيراً ما استغله المجرمون للإفلات من القصاص، ومنع الضحايا في الوقت نفسه من اللجوء إلى العدالة، خاصة وأن فشلهن في إحضار الشهود الأربعة كان يعني اتهامهن تلقائياً بالزنا ومعاقبتهن بالرجم. ورغم أن مثل هذه الوقائع ظلت تتكرر في البلاد، ولاسيما في المناطق القبلية والريفية، منذ أمد طويل، فإن ما جعلها تحظى في السنوات القليلة الماضية باهتمام إعلامي داخلي وخارجي غير مسبوق هو حادثتان محددتان: الأولى اغتصاب فتاة كفيفة تدعى quot;صفية بيبيquot; التي فشلت بطبيعة الحال في إثبات تعرضها لذلك وبالتالي اتهمت بالزنا. والثانية حادثة الاغتصاب الجماعي التي تعرضت لها امرأة تدعى quot;مختاران ميquot; بأمر من أحد الزعماء القبليين كعقوبة ضد أخيها الذي ارتبط بإحدى بنات القبيلة سراً.

ويمكن القول إن الفضل في هذا الإنجاز الذي قابلته قوى الإسلام السياسي وتنظيماته بموجة هستيرية من الرفض والتظاهر بحجة مخالفته للشريعة وهوية البلاد الإسلامية، بل الذي وقفت منه بعض القوى السياسية الأخرى أيضاً موقف العداء من منطلق خصومتها لرئيس البلاد الجنرال برويز مشرف ليس إلا، يعود إلى الجهد الدؤوب للمنظمات النسوية والحقوقية الباكستانية عبر أكثر من عقدين من الزمن، وإلى نشاط سيدات رائدات من أمثال quot;أسماء جهانغيرquot; وquot;جميلة أسلمquot; وquot;طاهرة عبداللهquot; وquot;أنيسة هارونquot; وquot;فوزية بورنيquot; وغيرهن، ممن ناضلن طويلاً في الداخل والخارج من أجل هذا الهدف، ناهيك عن جرأة بعض ضحايا الجرائم الجنسية اللواتي قمن بإيصال أصواتهن إلى العالم الحر.

غير أن الفضل يعود أيضاً إلى الجنرال مشرف، الذي كان قد أغضب نساء بلاده في سبتمبر 2005 حينما ذكر في مقابلة مع صحيفة quot;واشنطن بوستquot; الأميركية أن بعض الباكستانيات يعرضن أنفسهم للاغتصاب، أو يفبركن القصص طلباً للشهرة أو المال أو تأشيرات الإقامة في الغرب، الأمر الذي اعتبرته المنظمات المحلية المدافعة عن حقوق المرأة بمثابة إنكار ونفي رسمي لوقوع حوادث الاغتصاب المتكررة في المجتمع الباكستاني. إذ لولا وقوف الزعيم الباكستاني بنفسه خلف مشروع القانون الجديد ضمن سياسته الرامية إلى نشر الاعتدال والتنوير في البلاد، لما تحقق شيء. والحقيقة أنه لأول مرة منذ قيام باكستان يتجرأ رئيس الدولة، ومعه الحكومة ومؤسسة الجيش، على اقتحام ملف شديد الحساسية كهذا الملف، غير آبه بانتقادات الجماعات الإسلامية والقبلية المتشددة وما روجته بين العامة من قرب تحول البلاد إلى مرتع للفاحشة والزنا.

ويبدو أن في جعبة مشرف المزيد على هذا الصعيد. ففي كلمته أمام مؤتمر quot;المنتدى الاقتصادي الإسلاميquot; حول التنمية في الدول الإسلامية والذي استضافته إسلام آباد مؤخراً، أعلن مشرف عن إصراره على المضي قدماً نحو تعزيز قدرات نساء بلاده اللواتي يشكلن اليوم أكثر من نصف عدد السكان البالغ نحو 160 مليون نسمة، بغية مساعدتهن على احتلال مواقع أكثر تأثيراً في الشأنين السياسي والاقتصادي. وهو لئن اعترف بأن الحديث عن مساواة الرجل بالمرأة في المجتمعات الإسلامية أكثر سهولة من تطبيقها على أرض الواقع بسبب التقاليد والعادات المحافظة، والصراع ما بين أنصار الحداثة والموروث، فإنه ذكر أن إحدى أهم وسائل التصدي هي تمكين المرأة اقتصادياً كي تستقل مالياً عن الرجل ولا تبقى تحت هيمنته.

أما في اليوم العالمي للمرأة، فقد تعهد مشرف بالقيام بإصلاحات أخرى من أجل القضاء تدريجياً على ما أسماه بالممارسات الاجتماعية الظالمة، مشيراً إلى قرب تقدم الحكومة بمشاريع قوانين تستهدف القضاء على ظاهرة تزويج الفتيات إجبارياً أو بيعهن باسم الزواج، وظاهرة استيلاء الأزواج على حقوق زوجاتهم في الميراث. وفي الوقت نفسه حث الباكستانيات على عدم التصويت في الانتخابات القادمة في أوائل 2008 للقوى المتشددة والشخصيات المعارضة للإصلاح، مذكراً إياهن بأن مستقبل البلاد وازدهارها يعتمد على حجم مشاركتهن في الاستحقاق الانتخابي القادم بكثافة وطريقة تصويتهن.

والحقيقة أن باكستان قد تبدو من الظاهر بلداً حصلت النساء فيه على جل حقوقهن، ولاسيما حينما تذكر quot;بي نظير بوتوquot; التي دخلت التاريخ كأول امرأة تتولى السلطة في دولة إسلامية. فإضافة إلى البرلمان والمجالس التشريعية المحلية التي تخصص ثلث عدد مقاعدها للنساء (طبقاً لتعديل دستوري أقر في عام 2001) والتي عادة ما تشغلها سيدات من العائلات السياسية ذات النفوذ، وإضافة إلى توزير النساء في الحكومة المركزية عبر منحهن حقائب مختلفة، هناك ملايين النساء اللواتي يعملن أو يدرسن أو يتقلدن المناصب الرفيعة في المؤسسات العامة والخاصة أو يقدن الأنشطة والفعاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية، مع تواصل ارتفاع أعدادهن بفضل انتشار التعليم وبرامج مكافحة الأمية وتزايد الوعي بالحقوق. غير أن هذه الصورة تكاد تقتصر على المدن والحواضر، فيما نساء الأرياف والمناطق الجبلية والولايات البعيدة اللواتي يشكلن الأغلبية لا زلن محرومات من أبسط الحقوق، ويتم التعامل معهن مثل السلع القابلة للبيع والشراء، بل ويقتلن بدم بارد حينما يتعلق الأمر بالشرف أو العار تمشياً مع الأعراف القبلية والتقاليد الإقطاعية. إلى ذلك، فإن الإناث في هذه المناطق يعانين من تمييز ظالم لجهة فرص التعليم والعمل. حيث تفيد بعض الدراسات التي أجريت في مناطق من السند وبلوشستان أن نسبة الإناث المتعلمات في تلك المناطق تقل عن 2 في المئة، وأن نسبة 45 في المئة من الآباء يعمدون إلى إرسال أولادهم دون بناتهم إلى المدارس من منطلق أن تعليم الإناث لن يفضي إلى منافع مادية في المستقبل.

ورغم هذه الصورة القاتمة خارج المدن الكبيرة، فإن المنظمات والشخصيات المدافعة عن حقوق المرأة الباكستانية متفائلة بحدوث التغيير، تشجعها حادثة quot;مختاران ميquot; السيدة الأمية التي وعت حقوقها وامتلكت الجرأة لتتحدى منظومة الأعراف البالية وتستغيث بالعالم من أجل رفع الحيف الذي وقع ضدها، خلافاً للكثيرات ممن تعرضن لحوادث مشابهة وفضلن الصمت جبناً أو خوفاً.

ويبدو أن تلك المنظمات والشخصيات تحاول الآن استغلال حماس الرئيس مشرف وخططه التنويرية في الدفع بقضايا حقوقية جديدة إلى الواجهة مثل الإلغاء الكلي للعقوبات المطبقة بموجب أحكام الشريعة الإسلامية، وحظر تزويج الفتيات القاصرات، وإلغاء المبدأ الشرعي القائل بأن شهادة المرأة تساوي نصف شهادة الرجل في القضايا العادية، وأنه لا شهادة تقبل منها في قضايا الحدود، أو المبدأ الآخر الذي يجعل من دية المرأة القتيلة نصف دية الرجل.