طهران - حسن فحص


هل سيستطيع التيار الإيراني المحافظ بكل أجنحته استيعاب المتحول الشعبي الكبير الذي أفرزته النتائج الأولية للانتخابات الثلاثية (مجلس خبراء القيادة والبلديات والبرلمانية الفرعية) خصوصاً في العاصمة طهران؟

سؤال من الصعب التكهن بإجابة سريعة عليه، مع دخول الأطراف كلها في قراءة النتائج وانعكاساتها السياسية البعيدة المدى، والاجتماعية صدمت البعض، خصوصاً تيار الرئيس محمود أحمدي نجاد الذي بات عليه إجراء مراجعة جدية لمكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية الشعبوية التي لم تفلح في تأمين دعم شعبي يساعده في سياسة التفرد والاستبعاد التي مارسها خلال فترة توليه للسلطة منذ نحو سنة وثلاثة أشهر.

يبدو من الوقائع ان التيار الداعم للرئيس الإيراني فوجئ بحجم المشاركة الشعبية في الانتخابات هذه المرة، وبالهزيمة القاسية التي لحقت به في معظم المدن والقرى الإيرانية، وذلك بخلاف توقعاته بأن تكون نسبة المشاركة كما في الانتخابات البلدية السابقة في العام 2003 حين لم تتجاوز في طهران 18 في المئة كإقليم و12 في المئة كمدينة في أحسن التقديرات.

حقائق كثيرة تكشفت عنها الانتخابات الإيرانية الأخيرة، لعل أبرزها تراجع شعار العداء لأميركا، لكن هذا لن يمنع النظام من توظيف المشاركة الشعبية الواسعة في تعزيز مشروعيته الشعبية والسياسية، وتمكنه من إشهارها كورقة في مواجهة الضغوط الدولية، تساعده على التصلب بمواقفه من المجتمع الدولي خصوصاً في الأزمة النووية والملفات الإقليمية. لكن ذلك لا يضمن النتائج النهائية، فحجم المشاركة الذي تجاوز حدود 61 في المئة في إيران كلها، هو نسبة لا تبتعد كثيراً عن النسبة التي حازها الرئيس محمد خاتمي في الانتخابات الرئاسية عام 2001 أي حوالى 67 في المئة.

العقل المدبر للنظام والذي يضع الاستمرارية والبقاء في أساس استراتيجياته الداخلية والدولية، دفع بالقوى الشعبية الصامتة والاصلاحية المنكفئة للمشاركة بفاعلية في الانتخابات بإشعارها بخطر القضاء على صوتها واستبعاد ممثليها او الذين ترى إمكان التعايش معهم أكثر من غيرهم كالرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، ما دفعها الى المشاركة الواسعة. والعقل المدبر قد يسمح بترجمة نتائج الانتخابات بأقل الأضرار في الساحة السياسية والإدارية، لكنه يستثمرها في الرفع من مشروعية العملية الديموقراطية للنظام في شكل عام.

والحقيقة الثانية هي الهزيمة المدوية لتيار رئيس الجمهورية أحمدي نجاد، فمن المعروف في الحياة السياسية الإيرانية أن أي رئيس للجمهورية يؤثر في نتائج أي انتخابات قد تجرى في عهده، كما حدث في عهد الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني والرئيس السابق محمد خاتمي اللذين طبعا انتخابات المجلس النيابي والمجالس البلدية بطابعهما وسيطرا على مفاصلهما.

والحقيقة الثالثة تشير الى ان التيار المحافظ الأصولي ما زال هو المسيطر على القاعدة الشعبية للمحافظين، وإن أي محاولة لاستبعاده لن تمر بسهولة ولن يستسلم لها. وإن محاولة القضاء عليه تعزز من حضوره الشعبي وتدفعه الى اتباع نهج معتدل في التعاطي مع القوى السياسية الإيرانية في الداخل.

لا شك في أن بعض القوى الإيرانية المحافظة لن ترضى بنتيجة العملية الانتخابية، بحسب ما تبين من الوقائع التي رافقت فرز الأصوات لحظة بلحظة، وستسعى الى إحداث تغيير في هذه النتائج لمصلحتها أو على الأقل لغير مصلحة الإصلاحيين، الأمر الذي زاد من مخاوف تحالف القوى والأحزاب الإصلاحية من عملية استبعاد ممنهجة لهم، ودفع أبرز قياداتهم كالرئيسين السابقين رفسنجاني وخاتمي ورئيس البرلمان السابق مهدي كروبي الى تشكيل غرفة عمليات لمتابعة النتائج ونقل المخاوف لمرشد الثورة السيد علي خامنئي الذي أكد خلال استقباله لهم حرصه على سلامة العملية الديموقراطية ونزاهة الانتخابات.

والحقيقة الرابعة ان هذه الانتخابات أعادت اللحمة بين التيار الإصلاحي وخصمه السابق الشيخ هاشمي رفسنجاني على قاعدة المصلحة وإمكان التقارب، بعد أن استشعر الطرفان مخاوف حقيقية من بعض نيات التيار المقابل لإخراجهم من الساحة السياسية والقرار، كانت ترجمتها قطع ما تبقى من وشائج الود بين رفسنجاني وأحمدي نجاد الذي عمد الى حرب إدارية علنية ضد المقربين من رفسنجاني.


هذا الأمر يجعل من الصعب على أحمدي نجاد الاستكانة الى التقارب بين رفسنجاني والإصلاحيين في المرحلة المقبلة، خصوصاً أنه يترافق مع انزعاج سابق لأحمدي نجاد من نفوذ رفسنجاني في الكثير من المؤسسات الرسمية كان استمر متعايشاً مع عهد خاتمي، ما يدفع الى الاعتقاد بأن مرحلة جديدة ستبدأ داخل الإدارات الرسمية لاستكمال استبعاد المؤيدين لرفسنجاني.

والحقيقة الخامسة ان التيار الإصلاحي أو تحالف الأحزاب الإصلاحية استطاع إرسال اشارات واضحة لاستمراره في الحياة السياسية من خلال قدرته على اختراق دائرة سيطرة السلطة والمحافظين وفرض مشاركة قسرية عليهم في البلديات ومجلس خبراء القيادة، وحتى في الانتخابات الفرعية البرلمانية في طهران.

والحقيقة الأخرى، ولعلها الأهم، ان الانتخابات رسخت تمايزاً جلياً بين مرشد الثورة آية الله خامنئي وزعيم تيار المحافظين الجدد الشيخ محمد تقي مصباح يزدي الذي يعتبر المؤثر الأساس على الرئيس أحمدي نجاد والداعم القوي له في المؤسسة الدينية، إذ استطاع المرشد ان يحجم القوى السياسية التي تعمل على إحداث تغيير كبير في تركيبة النظام الإسلامي استعداداً لمرحلة ما بعد خامنئي، وبالتالي قيادة إيران الى سياسة قد تجعل من الجمهورية الإسلامية laquo;جمهورية طالبان شيعيةraquo;.

وعلى رغم أن المعطيات السياسية كانت تشير الى ان تيار المحافظين الجدد بزعامة مصباح يزدي كان يخطط لخوض معركته النهائية مع رفسنجاني والقضاء عليه سياسياً واجتماعياً من خلال إلحاق الهزيمة به في انتخابات مجلس خبراء القيادة وإخراجه من دائرة القرار، إلا أن وقوف مؤيدي التيار الإصلاحي والأكثرية الصامتة من الشعب الإيراني في العاصمة طهران الى جانبه ساعده في تحقيق فوز كاسح وفي إعلان نفسه شريكاً في السلطة والنظام وليس تابعاً، وهو ما عبر عنه بعد صدور النتائج من انه laquo;سيكون الى جانب قائد الثورة في دعم توجهات الأمة الإيرانيةraquo;، وليس وراء القائد كما جرت العادة في كلام المسؤولين الإيرانيين.

في الانتخابات الرئاسية الماضية التي أوصلت أحمدي نجاد الى السلطة، كان واضحاً تأييد المؤسسة العسكرية، خصوصاً حرس الثورة الإسلامية له، وهو ما أكدته تصريحات أحد أبرز المنافسين في تلك الانتخابات الشيخ مهدي كروبي الذي وجد نفسه في غفلة من الزمن خارج دائرة المنافسة. إلا أن ابتعاد هذه المؤسسة على مستوى القيادة في هذه الانتخابات الأخيرة وتوزعها بين دعم رفسنجاني ودعم المحافظين التقليديين، يدل الى تحول داخل هذه المؤسسة القوية داخل تركيبة النظام الإيراني، قد يؤشر الى مراجعة دقيقة لتوجهاتها السياسية.

خلاصة القول، قد لا يكون في الانتخابات التي شهدتها إيران منتصر واضح، أو قد يكون من الصعب على أي من التيارات السياسية (محافظة أو إصلاحية) الادعاء بأنه حقق انتصاراً ساحقاً، لكن، في المقابل، يمكن القول ان هذه الانتخابات أكدت وجود مهزوم واضح هو التيار الداعم لرئيس الجمهورية محمود أحمدي نجاد والمدعوم منه.