الثلاثاء: 2006.03.014

د. محمد عابد الجابري


انتهينا في المقال السابق إلى أن المجال التداولي لمفهوم quot;الوحيquot;، في خطاب العرب قبل الإسلام، لم يكن يتضمن المعنى الذي جاء به القرآن، وهو أن يبعث الله ملاكا رسولا، هو جبريل بالتحديد، ينقل كلام الله إلى الإنسان الذي اختاره الله رسولا إلى البشر. وقلنا إن الوحي بهذا المعنى لم يكن للعرب علم به، لا في معهودهم الخاص ولا فيما كان يمكن أن يعلموه بواسطة أهل الكتاب. ونريد في هذا المقال أن نشرح كيف أن مفهوم النبوة بالمعنى الإسلامي، وهو قرين مفهوم الوحي، كان هو الآخر غائبا عن مجالهم التداولي اللغوي.

اختلف أهل اللغة في الأصل الذي اشتق منه اسم quot;نبوةquot; فانقسموا فريقين: فريق يقول إنه مشتق من فعل quot;أنبأquot; بمعنى quot;أخبرquot;، والاسم منه: quot;نبيءquot; بالهمز. وبالتالي فـquot;النبيءquot; هو الذي يأتي بالخبر. أما الفريق الثاني فيرى أن الهمز فـي quot;النَّبـيءِquot; لغة رديئة، وهي لغة أهل مكة، وقليلة الاستعمال وإن كان القـياس لا يمنع من ذلك. وفي هذا الإطار يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاب شخصا دعاه quot;يا نبيء اللهquot; بقوله: quot;لا تَنْبِر باسْمي، فإِنما أَنا نَبِـيُّ اللهquot;. وفـي رواية: quot;قال لستُ بِنَبـيءِ اللَّهِ ولكنِّـي نبـيُّ اللهquot;.

والقائلون بعدم الهمز يرون أن لفظ النبيّ quot;أُخِذَ من النَّبْوةِ والنَّباوةِ، وهي الارتفاع عن الأَرضquot;. وبالتالي سمي النبي نبياً quot;لارْتِفاع قَدْره ولأَنه شُرِّفِّ على سائر الخلقquot;. وأضاف بعضهم: quot;النَّبيُّ الطَّريقُ، والأَنْبِياء طُرقُ الهُدَىquot;. وينسب إلى عبدالله بن عمر بن الخطاب قوله: quot;ما همز رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبوبكر ولا عمر ولا الخلفاء، وإنما الهمز بدعة ابتدعوها من بعدهمquot;. وبالنظر إلى هذا الاختلاف في تحديد معنى quot;النبيquot; في اللغة العربية يتضح أن المعنى الإسلامي لهذا اللفظ قد نشأ مع الإسلام، مثله مثل كثير من المصطلحات الشرعية التي اختص معناها في الإسلام بمضامين لم تكن تعطى لها قبل الإسلام كـquot;الصلاةquot; وquot;الزكاةquot; وquot;الغسلquot; والوضوءquot; الخ. ومن هنا ارتأى بعض المستشرقين أن لفظ quot;النبيquot; في الاصطلاح الإسلامي مأخوذ من العبرية Nabi (نافي) وهو يدل على quot;الرائيquot; (قارئ المستقبل).

وأما الرسول فهو من quot;الرَّسلquot;، ويذهب الراغب الأصفهاني في كتابه quot;مفردات غريب القرآنquot; إلى القول: أصل الرسل: الانبعاث (=الإرسال) على التؤدة ويقال: ناقة رسلة: سهلة السير... وقيل: على رسلك: إذا أمرته بالرفقquot;. ومنه اشتق quot;الرسولquot; (بمعنى مرسول)، أي quot;مُتحمِّل (حامل) القول والرسالةquot;. وقد استعمل لفظ الرسول في القرآن استعمالات متعددة. استعمل للواحد كقوله تعالى: quot;لقد جاءكم رسول من أنفسكمquot; (التوبة 128)، واستعمل لأكثر من واحد كقوله: quot;فقولا إنا رسول رب العالمينquot; (الشعراء/16 )، كما استعمل، تارة يراد به الملائكة كقوله تعالى: quot;ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرىquot; (العنكبوت 31)، وتارة يراد به الأنبياء، مثل قوله: quot;وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسلquot; (آل عمران 144). كما استعمل الإرسال في القرآن في الأشياء المحبوبة والمكروهة، سواء بسواء، كإرسال الريح، والمطر، نحو: quot;وأرسلنا السماء عليهم مدراراquot; (الأنعام 6)، وقد يكون ببعث من له اختيار، نحو إرسال الرسل، قال تعالى: quot;ويرسل عليكم حفظةquot; (الأنعام 61)، وقد يكون ذلك بالتخلية وترك المنع، نحو قوله: quot;ألم ترَ أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاًquot; (مريم 83)، كما يستعمل الإرسال في مقابل الإمساك. قال تعالى: quot;ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعدهquot; (فاطر 2).

هذا ويميزون بين النبي والرسول على أساس أن النبي قد يأتيه الوحي ولا يكلف بتبليغه، على عكس الرسول المكلف بتبليغ رسالته. وعلى هذا فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقولون إن النبوة يغلب عليها الإضافة إلى النبي، فيقال نبوة النبي لأنه يستحق منها هذه الصفة. أما الرسالة فتضاف إلى الله لأنه هو المرسل. ومع ذلك يقال نبي الله كما يقال رسول الله.

هذا في اللغة واصطلاح القرآن. أما في الفكر الإسلامي عموما فالكلام حول صفات النبي وحقيقة النبوة يختلف باختلاف الفرق المذهبية والاتجاهات الفكرية. ويمكن القول بصفة عامة إن اهتمام الفرق الكلامية كان مركزا حول إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وما به تثبت؟ وحول ما يميز النبي عن سائر البشر مثل تلقي الوحي، وكيفية التلقي، واحتمال تعرضه للنسيان، وهل هو معصوم أم غير معصوم؟ كما دار كلامهم حول المنقول والمعقول وكيفية التعامل معهما. أما الفلاسفة فقد انشغلوا أكثر ببيان العلاقة بين النبي والفيلسوف، بين ما يعطيه العقل (الفلسفة) وما يعطيه الوحي (الدين).

لنبدأ بالتعرف على رأي أهل السنة.

مصطلح quot;أهل السنةquot; يستعمل بمعنيين: عام، وخاص. فإذا قيل في مقابل quot;الشيعةquot; وquot;الخوارجquot; فهو يعم من تسموا في العهد الأموي بـquot;أهل السنة والجماعةquot;، وهم الذين تفرع عنهم كل من المعتزلة والأشاعرة. هذا في المعنى العام. أما في المعنى الخاص فيقال للإشارة إلى أهل السنة الأوائل ثم الأشاعرة، وذلك في مقابل المعتزلة. ونحن سنستعمل المصطلح في المعنيين معا، والسياق هو الذي يميز بينهما.

لا يختلف موقف أهل السنة عن موقف المعتزلة من مسألة النبوة إلا في بعض الأمور التفصيلية التي ترجع إلى أصول مذهب كل منهما. فهم جميعا يثبتون النبوات ويتعاملون مع مفهوم النبي بوصفه يدل على واحد من البشر اختاره الله لهذه المهمة، وبالتالي فهو ليس معصوما، عصمة كلية، لا عن النسيان ولا عن السهو والخطأ ولا عن المعاصي الكبائر منها والصغائر، وإن كانوا يضعون لذلك حدودا وقيودا تمنع من المس بعلو شأن النبي وطهارة سلوكه وأمانته، خصوصا في مرحلة التبليغ عن الله، بحيث ينفون عنه النسيان والسهو والخطأ في هذا المجال، وذلك إبعادا لشبهة النقص أو التغيير عن القرآن، وفاقاً مع قوله تعالى: quot;إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَquot; (الحجر 9). وهكذا فالموجه الأول والأخير لخطاب أهل السنة والمعتزلة حول النبوة موجه مزدوج:

- الحفاظ على الطبيعة البشرية للرسول التي أكد عليها القرآن مرات عديدة، وذلك في مقابل ما تضفيه المسيحية على المسيح من صفات فوق بشرية، وأيضا في مقابل نظرية الباطنية والمتصوفة، والشيعة عموما، في النبوة والولاية، كما سنشرح بعد.

- الحفاظ على الطابع الإلهي للقرآن بوصفه كلام الله المحفوظ المنزه عن التبديل والتحريف، quot;لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍquot; (فصلت 42). أما العلاقة بين الذات الإلهية والقرآن بوصفه كلام الله، فالمعتزلة لهم رأي خاص، وتلك مسألة تنتمي إلى مجال آخر وسنعرض لها في حينه.

ومع ذلك فيجب أن لا نتصور أن أهل السنة على مذهب واحد، فقد تميز الأشاعرة عن الحنابلة حتى غدا لكل منهما مذهب قائم بذاته. ومع أن المعتزلة تجمعهم أصولهم الخمسة فإن فيهم فرقا متعددة حتى أن كل كبير فيهم يشكل فرقة مع بعض تلامذته. وذلك سواء تعلق الأمر بموضوع النبوة أو بغيره من الموضوعات.

وفيما يخص رأي أهل السنة في موضوع النبوة يمكن القول إجمالا إنهم يربطون النبوة بالرؤيا الصالحة، وذلك انطلاقا من بضعة أحاديث منها حديث نبوي رواه أبو هريرة جاء فيه: quot;الرُّؤْيَا الْـحسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِـحِ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وأَرْبَعيِنَ جُزْءًا، مِنَ النُّبُوَّةِquot;، وفي حديث آخر quot;أَنَّ رَسُولَ الله كَانَ، إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاةَ الغَداة، يَقُولُ: laquo;هَلْ رَأَى أحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟raquo; وَيَقُولُ: laquo;لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ، إلاَّ الرُّؤيَا الصَّالحَةُraquo;.

وواضح أن المقصود بـquot;الرؤياquot; هنا ما يراه النائم. يقول بعضهم: quot;منام الأنبياء جزء من النبوة، وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به، فلقد كانت نبوة جماعة من الأنبياء عليهم السلام بمجرد المنامquot;. وفي السيرة أن أول ما نزل من القرآن على الرسول عليه السلام كان عندما جاءه جبريل وهو نائم في غار حراء، أعني قوله تعالى: quot;اقرأ باسم ربك الذي خلقquot;... الخ.