الجمعة: 2006.05.26

د. أسعد عبد الرحمن

تثير الأوضاع في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية الكثير من القلق. ولا يرجع هذا القلق فقط إلى السياسات التي يعتزم رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت القيام بها بشأن تحديد الحدود الدائمة لإسرائيل، الأمر الذي يعني ابتلاع جزء مهم من الضفة الغربية بحيث يصبح من المستحيل إقامة دولة فلسطينية quot;متصلة جغرافياً وقابلة للحياةquot;. وهذا التعبير الأخير تردد في ردهات المجتمع الدولي على لسان مسؤولين غربيين، وعلى quot;لسانيْquot; كل من الرئيس الأميركي جورج بوش، ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس، كما ورد في خطة quot;خريطة الطريقquot; التي وضعتها اللجنة الرباعية. كذلك لا يقتصر مصدر القلق على إصرار البعض على تجويع الشعب الفلسطيني واستثارته واستثارة منظماته وحجب الأمل بإمكانية التوصل إلى حال يؤدي إلى تجاوز اليأس والإحباط اللذين يقودان لاعتماد quot;العنفquot; (ما دام البديل الآخر مغلقاً ولا أمل يرجى منه) بعد أن سدت جميع حكومات إسرائيل كل الطرق المؤدية إليه. وبصراحة، فإن ما يقلقنا، فلسطينيين وعرباً، الآن هو الوضع الفلسطيني- الفلسطيني المحتاج إلى رصِّ الصفوف لمواجهة العواصف والأنواء بدلاً من الانخراط في مناورات صغيرة (وكبيرة) تشكل إرهاصات لحرب أهلية -لا قدر الله ولا سمح- أمكن لغاية الآن تجنبها بفضل حكمة القادة لدى الفرقاء المختلفين، وربما على الأرجح بحكم quot;توازن الرعبquot; بينهما على الأرض! وفي حين تراهن إسرائيل على سيناريو الاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني، تكتفي معظم الدول العربية بدور المراقب، فيما quot;تنشغلquot; كل من quot;حماسquot; وquot;فتحquot; -رفاق درب النضال الواحدndash; بالتركيز على نقاط الاختلاف، بدل الالتقاء على برنامج أساسه quot;الجوامع المشتركةquot;! بل إن ما هو أنكى وأدهى، لجوؤهما للغة وخطاب يضجان بمفردات التخوين والتشكيك، بينما العدو الإسرائيلي يتربص بالجميع.
حقاً، يمر مركب الوضع الفلسطيني الآن في عباب مرحلة من الخطر لم يعرفها عبر تاريخه النضالي الطويل إلا نادراً. بل هو ينزلق أمام ناظرينا إلى منحدرات خطيرة تتطلب بث التحذيرات واستثارة حكمة جميع العقلاء. ومما لاشك فيه أن التعاون بين رئاسة منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية (اللتين ترأسهما حركة quot;فتحquot;) والحكومة التي ترأسها حالياً حركة quot;حماسquot; (وكلاهما يستمد شرعيته من صندوق الانتخابات)، يجب أن تكون له الأولوية. وفي حين أن على quot;فتحquot; الإقرار بأن quot;حماسquot; قوة حقيقية وفاعلة لا يمكن ولا يجوز تجاوزها، فإن على quot;حماسquot; الإقرار بأن quot;فتحquot; لا تزال قوة حقيقية ومتجذرة حتى لو خسرت الانتخابات هذه المرة (وقد احترمت خسارتها وتبعاتها على نحو يدعو إلى التقدير) وحتى لو نبتت في ساحتها غرسات شيطانية وطفيليات. فالصراع الفلسطينيndash; الفلسطيني لن يكون فيه رابح، وفيه أكثر من خاسر يأتي على رأسهم خاسر كبير هو شعب فلسطين ومستقبل فلسطين ولن يكون فيه إلا رابح واحد كبير هو إسرائيل ومن يقفون وراءها. ولا نظن أن قيادتي الحركتين بصدد الضحك على الذقون (ذقونهم أولاً، وذقوننا ثانياً) بالتظاهر بعدم إدراك أن وجودهما quot;المسلح حتى الأسنانquot;، ببرنامجين سياسيين مختلفين، وبمنطلقات فكرية متباينة، إنما هو نوع من quot;الكيميائي المزدوجquot; المرشح للانفجار في وجوهنا جميعاً. وإن كان في تجربتي الأردن ولبنان خاسر ورابح، فإننا كما كنا الخاسرين في الحالتين، سنكون ndash;لا سمح الله- الخاسرين هنا أيضاً... وهي الخسارة التي لا نظن أنها -إن وقعت- ستقوم لكل الفصائل ولنا بعدها قائمة! فهل هذا ما تريده قيادتا quot;فتحquot; وquot;حماسquot;؟ ومن الكلام الواضح، بل والمكرور، القول إن جهوداً عربية حقيقية يجب أن تبذل في هذا الشأن مهما كانت الرواسب والحساسيات الماضية التي يجب أن تتلاشى، أو على الأقل تهون، ليس إزاء مصير فلسطين فقط، بل مصير جميع العرب الذين ما زالت الأطماع فيهم والمراهنة على ضعفهم قوية. وحتى الأعمى يستطيع أن يرى كيف أن إسرائيل مبتهجة (حتى درجة القهقهة!) مما يحدث!
وللأسف الشديد، بات عادياً أن يتبادل الطرفان (quot;فتحquot; وquot;حماسquot;) الاتهامات حول أيهما المتسبب في إذكاء أجواء العنف، مع أن السؤال المرعب المطروح اليوم هو: هل يمكن حدوث حرب أهلية فلسطينية تقضي على البقية الباقية من الأمل؟ لاشك أن هناك تكالباً دولياً على quot;حماسquot; والعداء لها مع تحيّن الفرص للانقضاض عليها وتقويض جهودها. فكثيرة هي القوى والدول التي لا تريد لتجربة quot;حماسquot; أن تنجح لأسباب مختلفة. غير أن جذر المشكلة هو حالة الفوضى الفكرية والسياسية والتنظيمية والأمنية التي تعيشها فصائل المقاومة. وحتى الآن لم تتمكن الحكومة الفلسطينية (كل حكومة فلسطينية) من القضاء على الفلتان الأمني والفوضى، خاصة وأن الأجهزة الأمنية الرسمية quot;الفتحاويةquot; (بعد الضربات الإسرائيلية لها) باتت في وضع لا يسمح لها بذلك. وفي هذا المجال، تقع مسؤولية كبيرة على عاتق quot;حماسquot; التي بإمكانها المساهمة الإيجابية على أكثر من صعيد بعد اكتمال الإدراك بأن حركة quot;حماسquot; (التنظيم المقاتل والمسلح) هي غير حركة quot;حماسquot; (الحكومة والمسؤوليات والاستحقاقات المختلفة). كما يجب إدراك أن العمل الوطني الفلسطيني لم يبدأ بدخول quot;حماسquot; المعترك، فهي قد دخلت بعد حوالي ربع قرن من كفاح تنظيمات أخرى متجذرة على الساحة (وبخاصة حركة quot;فتحquot;) خاضت الكثير من التجارب النضالية والامتحانات الصعبة وفرضت مشروعية الكفاح المسلح الفلسطيني على النظام العربي، مثلما فرضت القضية على الصعيد الدولي. لذلك، فإن الطرفين يستطيعان التعلم من تجارب كل منهما لو أرادا. وهل ثمة ما هو أوضح من الاستخلاص بأن صمام الأمان الوحيد لدرء مخاطر حرب أهلية، لا قدر الله، هو تعاون quot;فتحquot; وquot;حماسquot;، الفصيلان الرئيسيان في العمل الفلسطيني؟ وإن كانت المنافسة مطلوبة بل ومرغوبة، فإن التجاذب والخلاف بينهما على قاعدة رغبة أي طرف منهما بالجنوح لاحتكار العمل الفلسطيني وفرض وصايته عليه لطبعه، منفرداً، بطابعه إنما هو أمر مرفوض لأنه يفتح الباب في الساحة الفلسطينية على اقتتال لا مناص منه... والعياذ بالله.
في الخلاصة، لابد من إدراك أن الأوضاع الفلسطينية لا تحتمل المزيد من الإرباك والجمود! فقد باتت الخيارات واضحة أمام الجميع. والخيار الأسلم هو عودة الفصائل (وبالذات حركتا quot;فتحquot; وquot;حماسquot;) إلى طاولة الحوار والتوصل لصيغة سياسية وخطة عمل مشتركة للخروج من هذه الأزمة التي تهدد الجميع. ومن البديهي أن الاختلاف حالة صحية وموجودة في كل المجتمعات السياسية في العالم. فالإجماع لم يكن ولن يكون موجوداً في أي مجتمع سياسي ديناميكي مثل المجتمع الفلسطيني، شريطة أن يبقى في أطره الوطنية والقانونية دون أن يتجاوزها. أما المغامرة أو المقامرة بتاريخ ونضال الشعب الفلسطيني فأمر مرفوض، فهل يرقى الجميع إلى مستوى المسؤولية عبر المبادرة إلى حوار جاد ومسؤول وهادف بعيداً عن الضحك على الذقون (ذقونهم وذقوننا)؟!