السبت: 2006.06.10
جورج كاستانيدا
ثمة طريقتان لتفسير نتائج الانتخابات التي شهدتها أميركا اللاتينية في الآونة الأخيرة. سوف نجد أولاً، وعلى نحو شديد الوضوح، أن التحول المفترض نحو اليسار في أميركا اللاتينية يتجه نحو الاضمحلال السريع. ففي غضون الأسابيع الأخيرة لاقى القومي المتعصب أولانتا هومالا، الذي يعد نسخة من الرئيس هوجو شافيز في فنزويلا، هزيمة واضحة في بيرو، كما أحرز المحافظ ألفارو أوريبي انتصاراً ساحقاً في كولومبيا، حيث حصد 62% من أصوات الناخبين، وتخلف أندريه مانويل لوبيز أوبرادور في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها المكسيك في الثاني من يوليو/تموز. وتتناقض كل هذه التطورات المنفصلة بصورة واضحة مع الميل نحو اليسار في أميركا اللاتينية.
هناك طريقة أخرى للنظر إلى هذه الأحداث. أجل، لقد فاز الرئيس أوريبي في سباق إعادة انتخابه، لكن المفاجأة الكبرى في كولومبيا كانت في انتهاء نظام الحزبين الذي ظل مهيمناً على البلاد لعقود من الزمان، وبروز حزب بولو ديمقراطيكو اليساري كثاني أضخم قوة سياسية في البلاد.
على نحو مماثل، وعلى الرغم من فوز ألان جارسيا في بيرو، إلا أنه لا ينتمي إلى حزب يساري متشدد لم يظهر إلى النور إلا مؤخراً (مثل لولا دا سيلفا في البرازيل، وميشيل باتشليت في شيلي، وتاباري فاسكويز في أوروجواي). ذلك أن حزب quot;أبراquot; الذي ينتمي إليه، والذي أسسه فيكتور راؤول هايا دا لا توري في عشرينيات القرن العشرين، يعد واحداً من أقدم الأحزاب في المنطقة وأكثر منظماتها الشعوبية انطواءً على مفارقات تاريخية.
ومثله كمثل شافيز في فنزويلا، وكيرشنر في الأرجنتين، وإيفو موراليس في بوليفيا، ولوبيز أوبرادور في المكسيك، ينتمي الرئيس جارسيا إلى اليسار غير المتحول الذي ما زال قائماً على التقاليد الشعوبية العظمى لأميركا اللاتينية. وربما يكون قد تعلم العديد من الدروس من فترة رئاسته غير الناجحة في فترة الثمانينيات، إلا أنه أقرب إلى اليسار الذي على خطأ وليس اليسار الذي على صواب. وفي المكسيك، بدأ لوبيز أوبرادور في تحقيق بعض التقدم في الاستطلاعات التي جرت مؤخراً، كما بدأ في إبراز ميوله الحقيقية، واعداً جمهور الناخبين في المكسيك بالقمر والنجوم.
الحقيقة أن التطورات الأخيرة الأكثر أهمية، التي شهدها اليسار في أميركا اللاتينية، قد لا تكون كامنة إلى حد كبير في النتائج التاريخية للانتخابات، بقدر كمونها في الاختلافات المتنامية بين المعتدلين والانتقاميين، وبين المصالح الوطنية والإيديولوجية. ومع تقرب موراليس من شافيز وفيدل كاسترو على نحو أكثر سرعة من توقعات أغلب الناس - بتأميم الغاز الطبيعي في بوليفيا، ودعوة أعداد غفيرة من الأطباء والمستشارين الكوبيين لزيارة بلاده، وتوقيع اتفاقيات تعاون لا تعد ولا تحصى مع فنزويلا- فهو بهذا يغذي أيضاً حالة التوتر القائمة بين بلده من جهة وبين البرازيل وشيلي من جهة أخرى.
إن الدولتين من جاراته، ولابد وأن يكون زعيما البلدين رفيقين روحيين له، من حيث النظرية على الأقل. ولكن يبدو أن الاختلافات بين اليسار الجديد واليسار القديم، والمصالح الوطنية المتضاربة للدول الثلاث، تفوق المشاعر والمظاهر السياسية المصطنعة.
على سبيل المثال، تعتمد الآن مدينة ساو باولو، أو المحرك الصناعي للبرازيل، على الغاز الطبيعي المستورد من بوليفيا لتغطية أغلب احتياجاتها من الطاقة. ونتيجة لهذا، فقد بادرت بيتروبراس، شركة إنتاج الطاقة في البرازيل إلى استثمار مبالغ ضخمة في بوليفيا، في كل شيء بداية من التنقيب إلى مد خطوط الأنابيب. ولكن الآن، وبعد انتخاب إيفو موراليس، أصبح المصدر الرئيسي لشركة بيتروبراس من الغاز الطبيعي تحت التأميم فجأة وبدون سابق إنذار.
الحقيقة أن الرسوم المحلية لإنتاج الغاز البوليفي قد زيدت بما يتجاوز النصف، وقد يتضاعف السعر الذي يدفعه عملاء بوليفيا الأجانب للحصول على غازها الطبيعي. والآن لا يتم الرجوع إلى العقود إلا في حالة مخالفة شروطها، كما يتولى الآن الفنيون والمحامون التابعون لشركة PDVESA، عملاق النفط الفنزويلي، مراجعة أصول شركة بيتروبراس في بوليفيا. ويريد لولا أن يتحرى الرقة في التعامل مع موراليس، إلا أنه لا يستطيع أن يكون رقيقاً مع دولة مجاورة تصادر أملاكه، ويتمكن في ذات الوقت من إسعاد المؤسسات الصناعية والمستهلكين في ساو باولو.
الآن بدأت خلافات مماثلة تنشأ مع شيلي. فربما يرغب الرئيس باتشيليت في التوصل إلى حل للمشكلة القائمة منذ قرن من الزمان، والتي تتلخص في افتقار بوليفيا إلى أي منفذ بحري على المحيط الباسيفيكي، إلا أنه من الواضح أن هذه المهمة أصبحت أكثر تعقيداً مما كان متوقعاً، بعد أن رفع موراليس أسعار الغاز وخفض من صادرات الغاز إلى الأرجنتين، التي تعد أضخم مورد أجنبي للطاقة لدى شيلي. فضلاً عن ذلك فلم تكن اللغة الخطابية التي يستخدمها موراليس ذات فائدة تذكر: ذلك أن اتهام الولايات المتحدة بمحاولة اغتياله، كما فعل في الأسبوع الماضي، لن تحببه إلى النخبة في دولة وقعت على اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة ومن المتوقع أن يزور رئيسها واشنطن قريباً. في نهاية المطاف، نستطيع أن نقول إن موراليس قد يخدم المصالح الوطنية المباشرة لبوليفيا من خلال تحالفه الإستراتيجي مع كوبا وفنزويلا. على الجانب الآخر، ربما يكون تلاعب شافيز على نحو صريح في انتخابات بيرو، سبباً في إقصاء ألان جارسيا إلى الحد الذي يجبره على التحول إلى الديمقراطية الاجتماعية على النمط الأوروبي، وقد يفي لوبيز أوبرادور بوعوده الخاصة باحترام اتفاقية النافتا، وربما يلتزم بسياسات الاقتصاد الشامل، ويسعى إلى إقامة علاقات طيبة مع الولايات المتحدة.
الفجوة بين اليساريين في أميركا اللاتينية تتسع على نحو ثابت. والحقيقة أن هذا أمر حتمي لا مفر منه، فالقوة الدافعة التي تعمل على توسيع شقة الخلاف تستمد الآن ببساطة من الإقرار بأن الحكومات التي تحترم مسؤولياتها لابد أن تضع المصالح الوطنية قبل الحنين إلى الماضي، والخطب الرنانة، والاستغراق في الإيديولوجية.
جورج كاستانيدا وزير خارجية المكسيك السابق (من عام 2000 إلى 2003)، وهو أستاذ بارز ومتميز على المستوى العالمي للعلوم السياسية والدراسات الخاصة بأميركا اللاتينية في جامعة نيويورك.
التعليقات