الجمعة: 2006.08.18

خيري منصور


الشعر هو الابن البكر لهذه الجغرافيا الأموية والأسطورة هي أخته الصغرى، فإذا كان الجليل قد مدّ اصعبه الأخضر نحو ذلك التضريس الخصيب، وربيب الزيتونة الجنوبية فإن صيدا تُطير الريح ضفيرتها المحلولة باتجاه ذلك الجد الأشم، وتبقى السياسة كما التاريخ مجرد قشور على بوابة الفاطمات كلهن، بدءاً من تلك الزهراء حتى حفيدتها التي لم تفطم الأحفاد إلا عن حليب المهانة العكر.

ما من مرّة سمعت فيها عبارة أصبع الجليل في نشرة أخبار أو في تقرير مكرر ومعقم عن الحرب ما قبل الأخيرة، إلا وسرت قشعريرة كرملية في القلب، لأن هذه البلاد التي شطرت كالبرتقالة بعد أن تم تقشيرها من بلاغتها القومية، تلتئم كلما مشى الدم الى الدم، وكلما أوغلت السكين العمياء بين الوريدين.. وريد صور ووريد غزة، وبينهما ذلك المخيم الذي تحول فيه اللاجئون الى ملاجئ، والمهاجرون الى أنصار، واقتسم التوأمان الشقيان رغيفاً وجرحاً، وسلة تين.

ويذكرني الأصبع الجليلي بما قاله محمود درويش في تلك العشيّة التي شهدت غسق العرب ونعيب البومة في الأفق لأهل لبنان.. قال: خرجت أصابعنا من كفكم، وقال أيضاً: يا أهل لبنان الوداع.

لكن الليل أقصر مما يظن اللصوص، وما من صاروخ أو طائرة فانتوم تطال القمر لتطفئ ضوءه الشاحب، لكن الفاضح لمن يذبحون الأطفال بدءاً من أصابعهم الصغيرة، كي لا يكتبوا ولا يشهدوا ولا يضغطوا على زناد.

لقد سمينا القتيلة عام الاجتياح قبل ربع قرن إلا قليلاً ليلى.. وسمينا قاتلها أخاها، مثلما سمينا جنين صيدا.. وبيروت تابوتها أو مداها.. وكان أن برعم البرتقال لأول مرّة في تاريخ مواسمه في ركام الصفيح، واعترت الصخرة قشعريرة المخاض، ومشت الجبال الى الجبال.

طوبى لمن رسم لبنان ذات اجتياح بجديلتين احداهما علم فلسطيني والأخرى علم لبناني، وخفقتا معاً في فضاء كان من استباحوه بغربان الحديد يظنون أنهم اعتقلوه.. وأخذوا يستجوبونه ليعترف بما اقترف من ترديد صدى النشيد.

لا يهم أيها اللبناني الذي برعمت على ساعده أيام ليست من هذه التقاويم الخريفية الصفراء، ولا يهم أيها الفلسطيني الذي احتشدت في قبضته أمة بأسرها وأسراها.. فالصراع أبعد من كل الحدود. ويبدو أنه يعفّ عن هذا العلف الذي انتهت صلاحيته وتسمم.

ولا يليق بهذا الدم ان نبتدع أوطانا هي كسور عشرية ومئوية، كما ان ربع الانتصار لا يبقى ثلاثة أرباع الهزيمة، إلا إذا كان الحاسوب المعتمد غبياً الى حد يخلط فيه بين الدم والماء والنفط وماء الوجوه.

إن أبهى مدن العرب تعيش بلا كهرباء لكن النجوم تمكث في سماواتها لأجلها فقط، وقد لا تشرق الشمس إلا اعتذاراً عن كل هذا الظلام.

فالأصبع جليلي والجديلة صيداوية والزيتونة الجنوبية لا تطرح حنظلاً أو برسيماً.

إنها توأم الزيتونة الشمالية، ولو كان الشجر يمشي مثل الناس لمشى الزيتون الى الزيتون.. وعادت الأصابع الجليلية الى كفّ لبنان.