الخميس: 2006.09.07

د. أكمل عبد الحكيم

شهد متوسط درجة حرارة المناخ المحيط بسطح الأرض، ارتفاعاً تدريجياً خلال العقود القليلة الماضية، فيما يعرف بظاهرة الاحتباس الحراري العالمي (Global warming). ويعزو العلماء هذا التغير المناخي، وخصوصاً خلال الخمسين عاماً الماضية، إلى الأثر السلبي لنشاطات المجتمعات البشرية وتبعاتها البيئية. هذه النشاطات، مثل فرط استخدام الوقود الأحفوري وتدمير الغابات على نطاق واسع، أدت إلى تراكم الغازات الحابسة للحرارة مثل ثاني أوكسيد الكربون، فيما يعرف بظاهرة البيت الزجاجي (Greenhouse Effect). ورغم أن الجوانب والتبعات المختلفة لهاتين الظاهرتين، مثل التبعات البيئية والاقتصادية والأمنية، كانت جميعها موضوع دراسات مستفيضة، وتغطية شاملة من قبل وسائل الإعلام، إلا أن التبعات الصحية، وخصوصاً على مدى ونطاق انتشار الأمراض المعدية، لم تحظَ بنفس القدر من الاهتمام الإعلامي. ولتقريب هذا الأثر، يمكننا هنا أن نسترجع ما حدث في عام 2005 على شواطئ إحدى بقاع آلاسكا، حيث سجل أكبر وباء من التسمم الغذائي، الناتج عن نوع خاص من البكتيريا يسبب النزلات المعوية الحادة Vibrio parahaemolyticus gastroenteritis. هذا الميكروب وصل إلى ضحاياه، من خلال تناولهم للمحار البحري، المتوفر بكثرة في شواطئ المنطقة. وتكمن المشكلة في أنه قبل هذا الوباء، لم تسجل أية حالات إصابة بهذا الميكروب في مثل هذه المناطق الشمالية. حيث كانت كولومبيا البريطانية، والتي تقع إلى الجنوب بأكثر من مئة كيلومتر من شواطئ آلاسكا، هي أقصى المناطق التي سجلت فيها إصابات سابقة مماثلة. وما حدث هو أن الاحتباس الحراري العالمي والمترافق بارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات، خلق بيئة مناسبة في المناطق الشمالية، سمحت للميكروب بالنمو والازدهار في أماكن لم تكن تناسبه سابقاً بسبب برودة مياهها.

وبخلاف السماح للميكروبات بغزو مناطق جديدة كانت مستعصية عليها سابقاً، يتيح الاحتباس أو الإحماء العالمي انتقال الحشرات الحاملة للأمراض، وتوسيع مدى نطاق انتشارها، وأفضل مثال على ذلك هو البعوض الناقل للملاريا. فالمعروف أن الدفء يزيد من معدلات تكاثر البعوض، ويفتح شهية أفراده للمزيد من وجبات الدماء، ويطيل من موسم التزاوج والتكاثر، وفي نفس الوقت يقصر من الفترة اللازمة للميكروبات التي يحملها في لعابه للوصول إلى درجة النمو الكامل والانتشار من شخص إلى آخر. أي أن دفء المناخ يماثل جرعة منشطّة لمجتمعات البعوض، تزيد من أعدادها وتفتح من شهيتها، بالإضافة إلى تعاظم قدرتها على نقل الأمراض. مثل هذه العلاقة، ربما كانت هي السبب أيضاً خلف انتشار بعض الأمراض مؤخراً إلى مناطق شمال البحر المتوسط، مثل مرض اللسان الأزرق (bluetongue disease) الذي يصيب قطعان الماشية والأغنام والإبل، وينتقل عن طريق لدغات حشرة العثة (mite) الصغيرة. وفي روسيا، وما بين عامي 2004-2005، شهدت البلاد انتشاراً متزايداً لطائفة من الأمراض المعدية، مثل مرض السُّعار أو الكلَب.

وبالطبع، لا يقتصر التأثير الصحي لظاهرة الاحتباس الحراري العالمي على انتقال الأمراض المعدية فقط. فحسب وثيقة حقائق صدرت عن منظمة الصحة الدولية في العام الماضي، يظهر مدى تعدد الجوانب السلبية للتقلبات المناخية قصيرة الأمد، على الصحة والسلامة البشرية. فمثلاً يؤدي التباين الشديد في درجات الحرارة إلى العديد من الاعتلالات القاتلة، مثل الإجهاد الحراري والانخفاض الشديد في درجة حرارة الجسم، بالإضافة إلى زيادة معدلات الوفيات من جراء أمراض القلب والجهاز التنفسي. بينما يؤدي السكون الشديد للظروف المناخية، وخصوصاً فوق وحول المدن، إلى ارتفاع تركيز الملوثات العالقة في الهواء، واستقرار سحب الدخان والغبار، وهو ما يترافق مع آثار صحية سلبية هو الآخر. ومثل هذه المؤثرات قد تكون ذات عواقب وخيمة، وغالباً ما تترافق مع ثمن إنساني فادح. فعلى سبيل المثال، أدى الارتفاع الشديد في درجات الحرارة في أوروبا في صيف عام 2003، إلى ارتفاع مماثل في نسبة الوفيات. ففي هذا الصيف فقط، زادت أعداد الوفيات بمقدار 27 ألفاً، عن أعدادها في الصيف الذي سبقه. ورغم عدم توفر دراسات دقيقة عن آثار تغير المناخ على مختلف بقاع العالم، إلا أن دائرة الصحة البريطانية قامت بتحليل أثر مثل هذا التغير على الجزر البريطانية. وخلص هذا التحليل إلى نتائج عديدة، منها أن ارتفاع درجات الحرارة سيؤدي في بريطانيا وحدها إلى التسبب في زيادة بمقدار خمسة آلاف وفاة عن الوضع الحالي، بسبب زيادة حالات سرطان الجلد الناتج عن التعرض للأشعة فوق البنفسجية، وهو التعرض الذي سيؤدي أيضاً إلى زيادة في عدد حالات قتامة عدسة العين أو quot;الكتراكتquot; بمقدار ألفي حالة. وتتوقع الدائرة الصحية زيادة أيضاً في العدد السنوي لحالات التسمم الغذائي بمقدار عشرة آلاف حالة، مع زيادة مقدارها ثلاثة آلاف حالة في عدد الوفيات الناتجة عن التعرض المباشر لدرجات الحرارة المرتفعة، وخصوصاً بين الشيوخ والمرضى. هذه الآلاف وعشرات الآلاف من الإصابات والحالات والوفيات، سوف تحدث في بريطانيا فقط. ولذا لنا أن نتخيل أعداد من سيمرضون، ومن سيلقون حتفهم من جراء التغيرات المتوقعة في مناخ الأرض. بل يذهب البعض إلى التقدير بأن مثل تلك الوفيات والإصابات ستكون أضعافاً مضاعفة في الدول الفقيرة، بسب عدم قدرتها المادية وغياب الوسائل التكنولوجية، التي يمكن أن تخفف من وطأة التغيرات المناخية على أفراد شعوبها، مقارنة بالدول الغنية المتقدمة تكنولوجياً كبريطانيا مثلاً.