الثلاثاء: 2006.09.012

د. محمد عابد الجابري

لم يرد في أية رواية أو نص أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكتب بنفسه ما ينزل عليه من القرآن، بل إن الإجماع قائم على أنه عليه الصلاة والسلام -حرصاً منه على حفظ القرآن، على مستوى الكتابة، بعد أن كان يحفظ في صدور أصحابه- قد عمد إلى اتخاذ كتاب خاصين يُقرئهم ما ينزل عليه فيكتبونه تحت إشرافه ومراقبته، على المواد والأدوات التي كانت تستعمل للكتابة في ذلك العصر (رقاع، عسب، لـحاف، قطع الأَديم، عظام الأكتاف والأضلاع... والورق أيضاً). وتذكر مصادرنا أنه كان من بين كُتَّاب الوحي كلٌّ من أبي بكر وعمر وعلي، وأبان بن سعيد، وأُبـيٍّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وثابت بن قـيس، وعبدالله بن مسعود وغيرهم. ويبدو أن المنقطعين الأوائل لكتابة الوحي هم، حسب حديث منسوب إلى النبي أربعة: quot;عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعبquot;.

والظاهر - كما سيتبين بعد - أن كُتَّاب الوحي كانوا يحتفظون بما يكتبون ويراكمونه، كلاً على حدة، وفي الغالب كيفما اتفق. بمعنى أنه لم تكن هناك طريقة واحدة يتبعونها في تجميع المواد التي كانوا يكتبون عليها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فبما أن القرآن كان ينزل حسب مقتضى الأحوال، في الليل أو النهار، في الحضر أو السفر... الخ، فمن الطبيعي ألا يكون كُتاب الوحي حاضرين جميعهم حين نزوله، وفي هذه الحالة قد يأخذ الغائبون عن الحاضرين ما جَدَّ من القرآن، وقد لا يفعل بعضهم ذلك بسبب مرض أو سفر. وإذا اصطلحنا على إطلاق اسم quot;صُحُفquot; ndash;وهذا ما حصل بالفعل- على مجموع ما تجمع من القرآن عند كل واحد من كتاب الوحي، فإننا سنكون إزاء مجموعات من الصحف، بعدد كُتَّاب الوحي، كل مجموعة سميت فيما بعد باسم صاحبها (فقيل مصحف علي ومصحف ابن مسعود ومصحف أبي... الخ). ومن المنتظر، والحالة هذه، أن يختلف حجم وترتيب كل واحد من هذه المصاحف عن غيره، اختلافاً كبيراً أو صغيراً. وهذا ما يفهم من جملة من الروايات السُّنية أنه حصل بالفعل. وهناك من يرى أن كُتاب الوحي كانوا يضعون ما كتبوا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الذي يعني أن عملية جمع القرآن تمت في بيت النبي وبإشرافه بتساوق مع نزول الوحي. وهذا رأي تقول به اليوم المصادر الشيعية وهو يتناقض مع المشهور من الروايات، عند أهل السُّنة، حول جمع القرآن كما سنرى.

ومن المسائل التي طالها الاختلاف والتي يقرها معظم المفسِّرين والمؤلفين في الحديث وفي quot;علوم القرآنquot;، استناداً إلى أحاديث وروايات يذكرونها، مسألة ترتيب السور والآيات.

ذلك أن بعض كتاب الوحي قد اتبعوا في ترتيب سور القرآن ترتيباً زمنياً، بمعنى أنهم رتبوا سور القرآن حسب تاريخ نزولها، كما فعل علي بن أبي طالب ndash;فيما يروى. هذا بينما رتب آخرون ما تجمع عندهم من القرآن وفق هذا الاعتبار أو ذاك، أو كيفما اتفق، فصار لكل منهم مصحف بترتيب خاص، يختلف قليلاً أو كثيراً عن الترتيب الذي بين أيدينا والمعروف بالمصحف العثماني، نسبة إلى الخليفة عثمان بن عفان الذي جُمع القرآن للمرة الأخيرة في عهده وبإشرافه، كما سنرى. ومن هنا قيل إن ترتيب السور في المصحف ترتيب اجتهادي. وهذا ما يقول به جلُّ من بحثوا في هذا الأمر من القدماء والمحدثين.

وبما أن بعض السور نزلت كاملة ومرة واحدة، بينما نزلت سور أخرى في مُدد مختلفة فإن ترتيب الآيات داخل النوع الأول لا يطرح إشكالاً، بمعنى أنه الترتيب الذي جاء به الوحي، فهو توقيفي أصالة، بمعنى أنه جزء من القرآن المنزَّل. أما ترتيب الآيات في السور الأخرى التي نزلت في مدد مختلفة فشأنه يختلف. والأمر الذي عليه جل المفسِّرين وعلماء الإسلام ndash;إن لم نقل جميعهم- هو أن ترتيبها توقيفي أيضاً، وذلك استناداً إلى ما روي عن زيد بن ثابت الأنصاري، أشهر كُتاب الوحي، من أنه قال: quot;كُنَّا عِندَ رَسُولُ الله نُؤَلّفُ الْقُرآنَ مِنَ الرِّقَاعِquot;، أي يرتبون الآيات داخل السور. كما روي عن عثمان أنه قال: quot;كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذاquot;. (مثلا: السورة التي تذكر فيها البقرة، أو المائدة، أو هود... الخ. فسميت هذه السور بذلك الشيء المحدد الذي ذكر فيها). وهناك سور سميت بأول كلمة أو عبارة فيها مثل: الصافات، الفجر، الضحى؛ ومثل: quot;إذا الشمس كورتquot; لسورة التكوير، وquot;سبِّح اسم ربك الأعلىquot; لسورة الأعلى. وهناك أخرى سميت بحرف أو أكثر من الحروف المقطعة وردت في مطلعها مثل: ن، ق، ص، يس، طه، الم، المص، كهيعص... الخ.

ومع ذلك فلا يبعد أن تبقى، خارج عملية ترتيب الآيات داخل السور، التي كانت تتم بإشراف النبي، آية أو أكثر مكتوبة على رقعة أو عظْم أو غير مكتوبة ولكن محفوظة في صدر هذا الصحابي أو ذاك. وهذا ما يُستفاد من رواية ذكرها أبو داود في سننه تخص الآيتين الأخيرتين من سورة quot;التوبةquot;، ولم تكونا قد أدرجتا فيها زمن عمر بن الخطاب. تقول الرواية نقلاً عن الزبير بن العوام: quot;أتـى الـحارثُ بنُ خزيمةَ بهاتـين الآيتـين من آخر سورة براءة فقال: أشهدُ أَنِّـي سمعتهما من رسولِ اللَّهِ وَوَعَيْتهُما. وهما قوله تعالى: quot;لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِquot; (التوبة 128-129). فقال عمر: أَنَا أشهد لقد سمعتهما، ثم قال: لو كانتا ثلاثَ آيات لـجعلتها (سورة) عَلَـى حِدَة، فانظروا آخر سورة من القرآن فألـحقوهما فـي آخرها، فألحقوهما بسورة براءة quot;التوبةquot;. ويستدل بعضهم بهذه الحادثة على أن ترتـيب الآيات لـم يكن فـي القرآن كله بتوقـيف، إنّما كان من عمل الصحابة أيضاً.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبدو أن الذين كانوا يحفظون شيئاً، قليلاً أو كثيراً، من القرآن زمن النبي كانوا كثيرين، غير أن الذين كانوا يحفظونه كله، من أوله إلى آخره، كان عددهم أقل. وهذا شيء طبيعي. يؤكد هذا ما رواه البخاري (حديث 4718) عن أنس بن مالك من أنه سئل: quot;من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلمquot;؟ فأجاب: quot;أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ ابن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيدquot;. والمقصود بكون هؤلاء وحدهم quot;جمعواquot; القرآن قبل وفاة النبي، أنهم وحدهم كانوا يحفظونه كاملاً عن ظهر قلب، بينما كان الصحابة الآخرون يحفظون منه أجزاء قليلة أو كثيرة. فعبدالله بن مسعود، وهو من المهاجرين ومن أوائل الصحابة وصاحب مصحف مشهور، كان يحفظ ndash;فيما يروى- نحواً من 90 سورة فقط من أصل 114، مجموع سور القرآن.

هناك مسألة أخرى تتصل بموضوع quot;جمع القرآنquot; لم تهتم بها مصادرنا الاهتمام الذي تستحقه، وهي الكيفية أو الطريقة التي تم بها نقل القرآن المكي المكتوب في الصحف من مكة إلى المدينة بعد الهجرة. يمكن القول من الناحية المبدئية إن الاعتماد في تحمل القرآن كان على الحفظ في الصدور. ومع ذلك فالروايات تنص على أن القرآن جمع من quot;الصحفquot; كما رأينا. نعم هناك أخبار تشير إلى ترحيل هذه الصحف سراً على مراحل، قبل فتح مكة، وأما بعد ذلك فالمسألة لم تعد مطروحة.