أكرم البني

لا تزال العمليات الإرهابية التي يعلن عنها في سورية تقابل بكثير من الارتياب وأيضاً بعدم الاكتراث، وآخرها الاشتباك الذي حصل قرب السفارة الأميركية في دمشق وانتهى بمقتل اربعة أشخاص قيل إنهم ينتمون الى تنظيم إسلامي تكفيري. وأسباب الشكوك واللامبالاة لا تعود فقط الى ضبابية المعلومات حول ما يحصل وعدم دقتها أحياناً وتباينها أحياناً أخرى مع الأخبار والمعلومات المستقاة من منطقة الحدث، وإنما أيضاً الى سرعة توظيف هذه الظاهرة، سياسياً وإعلامياً، عندما يتم الحاقها على الفور بالإسلام المتشدد أو ببعض أنصار تنظيم laquo;القاعدةraquo;، لإظهار وجه من المعاناة السورية من الإرهاب وكرد على اتهامات غربية بدعمه ومساندته.

صحيح أن سورية عانت لسنوات عديدة من صراع دموي بين السلطة وتنظيم laquo;الأخوان المسلمينraquo; كانت له أسبابه المعروفة، لكن الصحيح أيضاً أن ليس ثمة سبب سياسي مباشر يمكن أن يقنع أو يشجع على القول إن العنف الإسلامي أو تنظيم laquo;القاعدةraquo; يسعى اليوم لاستهداف سورية أو لارباك وضعها الأمني وخلق الاضطرابات في المجتمع. فالمعروف راهناً أن الخط الناظم للقوى الأصولية المتطرفة وعلى اختلاف تسمياتها هو مواجهة ما تسميه قوى التحالف laquo;الصليبي الصهيونيraquo; في المنطقة وحلفائه أينما وجدوا، وهذا ما أكده الشريط الأخير للرجل الثاني في تنظيم laquo;القاعدةraquo; أيمن الظواهري. وما دام الموقف السوري المعلن لا يزال ممانعاً لمسار السياسة الأميركية في المنطقة وفي حال صراع مع اسرائيل ويرفض احتلال العراق، وتتواتر الاتهامات الغربية بأنه يدعم الإرهاب ويتعرض لضغوط متنوعة بسبب دعمه لتنظيمات إسلامية مسلحة كـ laquo;حزب اللهraquo; في لبنان وحركتي laquo;حماسraquo; و laquo;الجهاد الإسلاميraquo; في فلسطين، فليس ثمة دافع منطقي كي توضع سورية اليوم على قائمة الاستهداف الإرهابي الأصولي. بل يظل منطقياً أن احتمال لجوء العنف الإسلامي الى العمل اليوم في سورية هو احتمال ضعيف جداً، ليس فقط بسبب غياب الغرض السياسي المباشر وإنما أيضاً لأنه يقدر جيداً حجم القوة الضاربة التي سوف تطلقها أعماله ويعرف أيضاً النتائج المريرة التي ترتبت مطلع الثمانينات على أصحاب هذا الخيار، وأنه سوف يصطدم بلا شك بحال من الرفض، أو لنقل الاستياء، تعم الشارع السوري ضد عمليات القتل والتفجير العشوائية ربطاً بالآثار السلبية العميقة التي يخلفها تكرارها المؤذي والمؤلم وغير المجدي في العراق، وهي بشارة خير أن يتنامى في سورية شعور شعبي متحفز ومتحسب من أن تنتقل مثل هذه الصورة الى البلاد.

وبالتالي إذا سلمنا بوجود أساس اجتماعي وسياسي لنمو قوى إسلامية متطرفة في سورية وإذا سلمنا أيضاً بوجود جماعات أصولية متأثرة بتنظيم laquo;القاعدةraquo;، تتغذى في نموها من حالة اليأس والإحباط وتفاقم معاناة الناس وارتفاع شحنة الغضب والتوتر من عنجهية العدو الصهيوني ودمويته في حربه الأخيرة على لبنان والدعم الأميركي المطلق له، فإن الأرجح والأفضل أن تختار هذه المجموعات الحياد تجاه الساحة السورية وتبقى في حالة من الكمون والترقب ربما كي تشكل ما يشبه قاعدة لوجستية لدعم نشاطات أخواتها في أماكن أخرى.

يجد الكثيرون إن الربط الرسمي لهذه الحوادث الارهابية بعناصر متطرفة تنتمي الى الإرهاب الإسلامي أو الى تنظيم laquo;القاعدةraquo;، قد يكون محاولة لتقديم نوع خاص من العروض يحمل في متنه أكثر من رسالة:

1- الى قادة البيت الأبيض والى المجتمع الأميركي عموماً بأننا laquo;في الهوى سواraquo;، وأن معاناتنا من الإرهاب مشابهة لمعاناتكم، بل أن سورية مثلكم تماماً تتعرض، وقد تعرضت فيما مضى، لهجمة أصولية تتطلب تفهماً وتعاوناً لتفادي أسبابها ونتائجها، أو ربما يكون الغرض عرض دليل براءة بأن الأجهزة الأمنية تقوم بواجبها ولا تقصر أبداً في ملاحقة وتعقب الإرهابيين والأطراف الأصولية التكفيرية، وخصوصاً عندما تتقصد هذه الجهات إيقاع أذى بالبعثات الدبلوماسية.

طبعاً لا يخفى على أحد ما وراء هذه الرسالة، خصوصاً مع التطورات التي يشهدها الوضع اللبناني وتداعيات الحرب العدوانية الأخيرة عليه، من رهان على تليين الموقف الأميركي وتخفيف حدة التوتر في العلاقات بين الطرفين والتي وصلت الى ما يشبه القطيعة، وتالياً من أمل في أن تمهد هذه التطورات لفتح قنوات التواصل وتحسين فرص إعادة بناء عتبة من الثقة المفقودة وربما إقناع سادة واشنطن، في حال نظروا بعين التفهم لما يجري، بأن ثمة دورا اقليميا مهماً لسورية من الخطأ تجاهله وهو جزء لا يمكن أن ينفصل عن دورها في استراتيجية مكافحة الإرهاب.

2- رسالة الى الأوروبيين تهدف الى تعزيز خيارهم الداعي الى مراعاة خصوصية التغيير والإصلاح في سورية وهم الذين يحبذونه تدريجاً وآمناً، وبالمقابل زيادة مخاوفهم المعلنة ومخاوف الكثيرين وإن بقيت مضمرة، من أن يفضي انفلات الأوضاع الى فوضى يرجحون أن تقطف ثمارها القوى الدينية وجماعات التطرف الأصولي وتكون نتائجها سلبية على استقرار المنطقة وتطور مسار لبنان الجديد. ويؤمل من هذه الرسالة أيضاً تشجيع الأوروبيين على التخفيف من اندفاعاتهم في معاداة النظام السياسي وربما فتح الباب مجدداً أمام مفاوضات الشراكة بين سورية والاتحاد الأوروبي على أمل حل بعض العقد التي حالت دون توقيعها، أو لعلها تلعب في الحد الأدنى دوراً في وأد ما يشاع عن توجه جديد بدأ يغزو العقل الغربي جوهره التعاطي الايجابي مع تيارات الإسلام السياسي المعتدل في المنطقة عموماً وفي سورية على وجه الخصوص، خصوصاً أن الكتلة الأكبر منها تنتمي الى صفوف المعارضة.

3- رسالة الى الداخل السوري لإظهار موقع السلطات القادر وأن هيبتها السياسية وكفايتها الأمنية لم تصابا بأي أذى أثر الجديد الحاصل في المنطقة وحالة الحصار التي تزداد إطباقاً على الوطن، ويصح اعتبارها بمثابة خطوة مكملة لخطوات أخرى على طريق إحياء المناخات الأمنية القديمة ومحاصرة معارضي النظام وتصويرهم عندما يستدعي الأمر على أنهم إرهابيون أو مناصرون للإرهاب. وخير دليل على هذا المسار تكرار الظواهر والممارسات على مدى الشهور المنصرمة التي تؤكد حضور القبضة الأمنية، وتظهر تصميماً لافتاً من قبل السلطات على محاصرة وردع النشاطات المدنية والسياسية المحدودة أصلاً، وتالياً تخويف الأصوات الناقدة للواقع المتردي والتي تلح على ضرورة الانفتاح السياسي والإصلاح الديموقراطي.

أخيراً، لنفترض أن ثمة ظواهر متطرفة وخطرة بدأت تنمو في سورية وتتوالد وبدأت تشكل خطراً على المجتمع وأمنه، ألم تعلمنا التجربة الحية أن الحلول الأمنية لا تجدي وحدها نفعاً ولن تجدي؟ ثم أليس الرأي الرسمي هو ذاته الذي يكرر النصائح للولايات المتحدة الأميركية بأن اعتماد الحل الأمني والعسكري في مكافحة الإرهاب هو رؤية قاصرة غير مجدية تزيد مناخات العنف تفاقماً؟ ثم وهذا هو الأهم، إذا كانت ثمة رغبة جادة في محاربة الإرهاب ومعالجة هذه الآفة جذرياً، فالأنجع ليس البحث عن عروض ما لاستمالة الخارج والاجتهاد في كسب وده، بل الالتفات صوب الداخل وفتح الأبواب امام دور حقيقي للمجتمع وقواه السياسية والمدنية الحية، بما في ذلك دعم التيارات الإسلامية المعتدلة وتعزيز دورها، وأساساً العناية بالشباب المحروم وفتح آفاق مطمئنة لمستقبله كي لا يسقط في خطر التشدد والتطرف والإرهاب.

إن الإصرار على الحلول الأمنية وإغلاق حقل النشاط السياسي والمدني يفاقم أزمات المجتمع ويزيد من مشكلاته في السلبية والفساد والفقر وتالياً اليأس والإحباط وكلها عوامل فاعلة وحافزة للتعصب والتطرف وتشكل الأرض الخصبة لنمو ظواهر العنف بأشكاله المختلفة.

كاتب سوري